02-16-2020
|
#2
|
|
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
من المحزن حقا أن يكافئ المرء من ترفقوا به فحجبوا عنه بعض الحقيقة إشفاقا عليه من مكابدتها, بالكراهية الضارية لهم.. والغضب العارم منهم والحرب الشعواء بلا هوادة ضدهم بدلا من أن يقدر لهم ترفقهم به.. ويتفهم أسبابهم لما فعلوا.. ويتجاو عنها حتي ولو لم يقتنع بضرورتها.. أو يكتفي علي الأكثر بالعتاب الإنساني الرحيم لهم علي سوء ظنهم بقدرته علي مواجهة الحقيقة.. والقبول بها. ولأن أصحاب القلوب الحكيمة لا يتحولون أبدا إلي الكراهية الضارية لمن أشفقوا عليهم من ألم الحقيقة.. ولا تنفجر في نفوسهم براكين البغضاء والحقد والمرارة ضدهم لمثل هذا السبب, فإن العامل الجوهري في هذه الثورة الضارية التي تملكتك تجاه زوجك وزوج أبنتك الراحلة لا يمكن فهمها أبدا أستنادا إلي هذا المبرر وحده.. وإنما يمكن تفسيرها علي ضوء ما يقوله علماء النفس عن تلك الحيلة النفسية الدفاعية التي تجري علي مستوي العقل الباطن لدي الإنسان للتنفيس عن المشاعر السلبية شديدة الإيلام له نتيجة لتعرضه لبعض الضغوط القاسية. فحين يصطدم الإنسان بخبرة إنسانية شديدة الإلم له أو يتعرض لموقف يؤلمه بشدة, فإنه يتولد داخله شعور عارم بالغضب والثورة, يتوجه دائما إلي مصدر هذا الإيذاء النفسي له ليعبر عن نفسه في مواجهته.. فإذا كان مصدر هذا الإيلام شخصا أو سلطة لها مكانة تحول دون أن يعبر المرء بحرية في مواجهتها عما يضيق به الصدر تجاهها, فإن الغضب يبقي حبيسا داخل الإنسان يحرق قلبه ويؤرق مضجعه إلي أن يعبر عن نفسه في اتجاه آخر.ولأن البخار المكتوم لابد من أن يجد له منفذا للخروج منه وإلا انفجر المرجل بما فيه, لأن عقل الإنسان الباطن يلجأ إلي البحث عن بديل يوجه إليه هذا الغضب المتأجج داخله والذي لا يستطيع توجيهه إلي مصدره الأصلي تهيبا له أو خوفا منه أو عجزا عن مواجهته. ويمهد الإنسان لهذا التحويل الذي يتم داخله بغير وعي منه باختيار البديل الذي تتجه إليه ثورة الغضب.. ويشترط فيه دائما أن يكون واحدا ممن تربطهم به صلة حميمة تسمح له بالانفجار فيهم.. وألا يكون ذا هيبة أو سلطة أو مكانة تحول دون انفجار الغضب في وجهه, وأن تسمح العلاقة معه بأفتعال بعض المشاكل التي تضفي علي الخلاف معه بعض المشروعية أو المنطقية ويمهد المرء لعملية التحويل أو التبديل هذه باختلاق المشاكل مع الطرف الذي اختاره العقل الباطن لتوجيه مسار الغضب إليه.. وقد يسترجع بعض الخلافات القديمة معه أو التحفظات السابقة له ثم يتعلل بأول ذريعة ويطلق حمم غضبه المكتوم في وجهه, ودون أن يعي أنه ليس سوي بديل لمصدر غضبه الحقيقي الذي استوجب هذه الثورة العارمة. وبهذه الحيلة النفسية الدفاعية يفسر علماء النفس انفجار الزوج المقهور في عمله أو حياته العملية مثلا في وجه زوجته لأتفه الأسباب كلما تراكم الغضب المكتوم داخله أو تعرض لقهر جديد من رؤسائه وعجز عن التنفيس عن مشاعره في مواجهتهم, ويفسرون بها كذلك كثرة الخلافات التي تقع بين بعض الأزواج والزوجات كلما تزايدت عليهم الضغوط الخارجية أو قست عليهم ظروف الحياة فيتخذ كل منهم من الآخر مجالا للتنفيس عن الغضب المتأجج داخله بدلا من أن يتساندا في مواجهة الظروف القاسية ويخفف كل منهما عن الآخر بعض آلامه.
وهذا هو نفس ما حدث معك يا سيدتي حين أصطدمت بفجيعة رحيل ابنتك عن الحياة دون سابق تمهيد نفسي لك بالعلم بخطورة حالتها الصحية.. فلقد انفجر بركان الغضب داخلك ضد هذا القدر المحتوم نفسه وليس ضد أي طرف آخر في حقيقة الأمر ولم تستطيعي تقبله أو الصبر عليه أو الرضا عنه أو الاستعانة عليه بالصبر والاعتصام بالإيمان والتسليم بما لا حيلة لأحد معه من قضاء الله وقدره.. ولأنك لا تستطيعين أن تتوجهي بهذا الغضب المتأجج إلي مصدره الحقيقي للأسباب الدينية المعروفة, فلقد قام عقلك الباطن بعملية تحويل للمشاعر السلبية إلي مسار آخر يمكن التعامل معه دون محظورات كبيرة ووجد ضالته في زوجك وزوج الابنة الراحلة وربما ابنتك الأخري أيضا.. وحاولت أضفاء بعض المشروعية علي هذه المشاعر فكان السبب المستعار لكل هذه البغضاء والكراهية هو كتمان زوجك وزوج الابنة لحقيقة مرضها عنك. وساهم ما يسميه الأديب الروسي العظيم أنطون كشيكوف بأنانية التعساء حين تقسو عليهم ظروف الحياة, فتجفف منابع الرفق في نفوس بعضهم وتميل بهم إلي القسوة السادية في تأجيج مرجل الغضب لديك وإطلاق شحناته المدمرة ضد أكبر عدد ممكن من البدلاء حتي لقد تمنيت ـ غفر الله لك ـ الثكل لكل الأمهات لكي يجربن لوعتك ويلتمسن لك العذر فيما يملأ نفسك من أحقاد ومرارات بدلا من أن يرقق الحزن الإنساني قلبك ويزيدك إشفاقا علي الآخرين كما يفعل أصحاب النفوس الراضية بأقدارها الذين يرجون ربهم ـ دائما ـ لو أعفت السماء غيرهم من مكابدة بعض ما كابدوه هم وتجرعوا مرارته. ولأنك استسلمت لهذه القسوة السادية بلا مقاومة.. ولا تجمل ولا اعتصام بالإيمان والتطلع لأجر الصابرين عند ربهم فلقد أبيت علي زوج ابنتك الراحلة حقه المشروع في أن يرمم بنيان حياته بعد أن أستوفي مرحلة الحزن علي شريكته الراحلة.. وأبيت علي هذه الأرملة الفاضلة أن تجد بعض تعويض السماء لها عن زوجها الراحل في أن تسكن إلي زوج آخر يرعاها ويرعي أبناءها وتشاركه هي رعاية أبنائه وتضميد جراحه وجراحهم فكلفتهما من أمرهما رهقا.. وشننت عليهما حربا ظالمة وأفتريت عليهما بالباطل وطعنت في شرف كل منهما ووفائه لشريك حياته.. وألتزامه بالنهج القويم في الحياة. فكأنما قد كرهت لهما أن يتخففا من أحزانهما ويبدآ حياتهما من جديد, وأردت لهما بغير حق أن يشاركاك أحزان الثكل إلي ما لا نهاية وليس كل ذلك من العدل أو الرحمة الإنسانية في شيء, فلقد أخلص الرجل لزوجته وأحسن عشرتها ورعايتها وبذل كل ما في وسعه لإسعادها حتي رحلت عن الحياة وهي عنه راضية, وليس من العدل أن تطالبيه بالتبتل بعدها حتي نهاية العمر فإذا أردت اصلاح الأخطاء والتكفير عنها, فإن أوان الندم علي الخطايا والآثام لا ينقضي أبدا مهما تأخر إقرار الإنسان بها.. وبنفس الهمة التي أنطلقت بها تنالين من سمعة زوج ابنتك وشرفه.. وسمعة هذه الأرملة الفاضلة وشرفها يطالبك العدل بأن تنهضي علي الفور لإبرائهما من كل ما افتريته عليهما بالباطل وأسأت به إليهما لدي الأهل والأقارب والأبناء والأحفاد.. وأن تعلني براءتهما من كل ما ادعيته عليهما.. وتقري بحقهما في الزواج بعد شركاء الحياة الراحلين وفقا لظروفهما وأن تعتذري لهما عن كل ما جنيته عليهما.. وتصبري علي تحفظهما معك وتشككهما في نياتك إلي أن تطيب نفساهما ولو بعد حين, كما يطالبك العدل ـ أيضا ـ بأن تصلي رحمك الذي قطعته مع أسرة هذه السيدة وأن ترفعي الحظر الذي فرضته علي اتصال أبنائك بها وبزوجها. وأن تزوري حفيدتك التي حرمتها من وجودك إلي جوارها في زواجها وأن تبذلي كل جهدك لاستعادة مودة أحفادك من ابنتك الراحلة وتصحيح صورة أبيهم ورد كرامته أمامهم.. فافعلي كل ذلك يا سيدتي إن أردت حقا إبراء ذمتك وتذكري قول الحق سبحانه وتعالي: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم, يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون واستغفري ربك كثيرا آناء الليل وأطراف النهار عسي أن يغفر الله سبحانه وتعالي لك كل ما كان من أمرك ويخفف عنك.. ويعيد إليك طمأنينة القلب والنفس بعد التطهر من الكراهية والبغضاء بإذن الله.
حصرى وليد الحظة
صدى الحرمان
|
|
|