حين كـلَّـفتُ بكتابة موضوع عن " نظرة الإسلام إلى الإنسان والكون "، شعرتُ حينها بوقوعي في ورطة حقيقية، فرغم أنّي أصنّف " قارئة "، إلا أني لم أتبحر بعد لأصل إلى موضوع شامل عميق كهذا، وقد حسبته كما يقال: "نشاطاً إضافياً"، فتساءلتُ كيف أكتبه وأنا لم أقرأ عنه من قبل؟! وبدا لي من عنوانه أنه صعب جداً، بل وجدتُ في الأمر تحدياً حقيقياً .. فالمطلوب أن أكتب عنه في صفحتين فقط، مع أنه شامل شائق، المجلدات لن تفيه حقيقته، ولن تشمله نظرتها، ولن تستوعبه صفحاتها، فما كان مني إلا أن أتيتُ بعدتي و"شيء من عدة صاحباتي" من كتب تحدثت عن هذا الموضوع، وأخذتُ أقرأ !
وحيث أنّ لكل حكاية مبدأ ومنتهى، فإنّ ومض الابتداء لأجمل الروايات "الإسلام والإنسان والكون" تعني أن الحديث عن هذه الثلاثية ليست مجرد فلسفة مقولبة، أو نظرة جامدة متجردة من الروح، بل هي صداقة لا مثيل لها ولا نظير ولا شبيه بين كلّ الصداقات، صداقة تكافلية تكاملية ناضحة بالعطاء والحب والجمال من كلّ طرف، علاقة تجعل الكون ليس مجرد كواكب ونبات وماء وبهائم أوجدتها الطبيعة أو حكمَ على وجودها الأزل، بل هو آية الله الكبرى المبهرة للعقول، آية ناضحة بدلائل العظمة والقدرة والجلال، وإذ أنّ مبادئ الإنسان - المؤمن خاصة - تتفق وبنسق دقيق مع نظرته إلى الكون، فإنّ الإسلام يؤصل عند الإنسان المسلم مبدأ الإيمان بوجود خالق للكون وذلك من خلال التأمل: " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ "
ولا يقف الأمر عند الخلق، بل يتتابع الإبهار والإعجاز الذي يصوره الكون والقرآن للإنسان "أي لنا نحن"، حتى يرينا أنّ الصانع لم يصنع صنعته ثم يتركها هملاً، بل هي تتبع في دقتها نظاماً معجزاً في إتقانه: " فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [96 – الأنعام] أليسَ الإنسان هنا متعلماً للدقة والإتقان والنظام؟ أليس الإنسان يتعلم كل يوم ويتعلم .. حتى صار التدبير جزءاً من التسخير .. وصار التسخير جزءاً من التدبير .. وعجباً إذ اجتمعا ولا عجب من العظمة الربانية،بعد ذلك .. تأتي نظرة الإسلام للإنسان، لا تفصل فيه روح عن الجسد، ولا جسد عن الروح، بل هما مزيج من نفخة كريمة وطينة أرضية، ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ الروح التي نُفخ في آدم عليه السلام منها "وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوْحِيَ" مضافة إلى الله إضافة تشريف لا نسبة، إذ أنّ نسبتها إلى الله " جزءاً منه " يقتضي أن يكون جزء من الله سبحانه وتعالى حالاً في آدم، وهذا لا يكون، إنما هي روح مخلوقة، خلقها الله .. ونفخ في آدم منها .. فتمثل بشراً سوياً .. وكفى بذلك تشريفاً .. أن حمل روحاً تعلو بالإشراق والصفاء والسمو، مع مراعاة تامة للفطرة الأرضية، بضبط رشيد، ونصح تام، وتقنين فعال، يجمع بين الإنسانية والبشرية، دون أن يجعل لأحدهما تعارضاً مع الآخر، بموازنة ناجعة، وسلاسة مريحة، تشبع الإشراق الملائكي في داخله، وترضي النزعة الأرضية في سكناته ورغباته لعلي أطلتُ .. لكنما عزّ على يراعي أن يحبس حديثه، ويمنع قطره، ويضيق عليه في جريانه، وكنتُ أخذتُ منه العهد ألاّ يطنب فيملّ، ولا يوجز فيخلّ، فعاهدني ثم نكث وأبى وما عهدته خواناً، لكني أحمد الله أن جُعل له مخرج في رحابة صدوركم، وسعة أفقكم، وسماحة نفوسكم، فبوركتم وبوركت مساعيكم، هذا والسلام!