"التواب" من أسماء الله الجليلة التي يُعتبَر التعبُّد بها توفيقًا من الله تعالى لمن أحَبَّهم من عباده، وسبيلًا لتحقيق التوازُن الرُّوحي، والاستقرار النفسي في حياة مَنِ اصطفاهم للأوْبة إليه، والرجوع إلى دينه، اسم يُدخِل السُّرورَ على عباد الله، ويطرُد اليأسَ من رحمة الله.
لقد دار اسم الله "التواب" في كتاب الله إحدى عشرة مرة، قُرِنَ في تسع منها باسم الله "الرحيم"؛ منها قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64].
ولا شَكَّ أن الإنسان خُلِقَ ضعيفًا، مُعَرَّضًا لفتن الدنيا ومُغْرياتها، قد تغلبُه نفسُه، ويستحوذ عليه هواه، فيقع في المعصية؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
بل الذنب والخطأ من طَبْع الإنسان، وبهما يعلم أنَّ له ربًّا يحِبُّ توبة عبده ويفرح بها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((للَّـهُ أشَدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتَتْ منه، وعليها طَعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجَع في ظِلِّها، قد أَيِسَ مِن راحلته، فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال مِن شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّكَ، أخطأَ مِن شدة الفرح))؛ متفق عليه.
بل الإذناب من لوازم هذا الإنسان الخطَّاء، الذي جعل الاستغفار له ملاذًا، والتوبة للخالق طهارة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبُوا، لذهب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يُذنِبُون، فيستغفرون الله، فيغفِر لهم))؛ مسلم، و((كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون))؛ صحيح سنن الترمذي.
ومن جميل رِفْق الله عز وجل بنا أنَّه لا يُؤاخِذنا بذُنُوبنا، إذًا لهلكنا جميعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، ولكنه لُطف الله بعباده، ورحمته بضَعفهم، وإقرار بنقصهم.
ولَسْتُ بِمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ *** على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ؟
وفي ذلك من تسلية المذنبين، والرِّفْق بالخاطئين، وفَسْح الأمل أمام المتجاوزين - ما يحمِلُهم على الرجوع إلى ربِّهم، والتوبة إليه من ذنوبهم، ولو مع تَكرار الوقوع فيها، والضَّعف أمام سُلْطانها، شريطة عدم الإصرار وتعمُّد الاقتراف؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
ومن عظيم البشارات في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ أذنبْتُ، فاغفِرْ لي، فقال ربُّه: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكَث ما شاء الله، ثم أصابَ ذنبًا، فقال: ربِّ، أذنبْتُ آخَر، فاغفِرْه، فقال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكَث ما شاء الله، ثم أذنبَ ذنبًا، قال: ربِّ، أذنبْتُ آخَر، فاغفرْهُ لي، فقال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، فَلْيَعْمَلْ ما شاء))؛ متفق عليه.
قال ابن رجب رحمه الله: ((فَلْيَعْمَل ما شاء))؛ يعني: ما دام على هذه الحال، كلما أذنب ذنبًا استغفَر منه.
وقيل للحَسَن رحمه الله: ألا يستحيي أحدُنا من ربِّه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟ فقال: "ودَّ الشيطان لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تَملُّوا من الاستغفار".
ونقل صاحب (الحلية) عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه قال: "أيُّها الناس، مَنْ ألمَّ بذنبٍ فليستغفِرِ اللهَ وليتُبْ، فإن عاد فليستغفِرِ اللهَ وليَتُبْ، فإن عاد فليستغفِرِ اللهَ وليَتُبْ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقةٌ في أعناق الرجال، وإن الهلاك كلَّ الهلاك في الإصرار عليها".
ومِن لُطف الله تعالى بنا أن جعل رحمتَه تَسَعُ كلَّ شيء، فأوصانا بالتمسُّك بها، وعدم القُنُوط منها، مهما عظُمَت الذنوب، وتراكمَت الخطايا؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
ولا شَكَّ أن التوبة مُطهِّرةٌ للنفوس من الأكدار، وداعيةٌ القلوبَ إلى الانشراح والاستبشار؛ قال ابن القيم رحمه الله: "أمَّا تأثير الاستغفار في دَفْعِ الهمِّ والغَمِّ والضِّيْق، فمِمَّا اشترك في العلم به أهلُ الملَلِ وعُقلاءُ كلِّ أُمَّة أن المعاصي والفساد تُوجِب الهمَّ والغَمَّ وضِيقَ الصَّدْر، ولا دواء لها إلا بالتوبة".
وقال الشعبي رحمه الله: "التائبُ من الذَّنْب كمَنْ لا ذَنْبَ له".
بل إن من العجب أن التوبة لا ترفَعُ الذنب فقط؛ بل تُحِيلُه إلى حسناتٍ مُضاعفةٍ، وأُجورٍ مُتكاثرةٍ؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
ومن رائق الوقائع أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت رجلًا عمل الذنوب كُلَّها، فلم يترُكُ منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترُكْ حاجَةً ولا داجَةً إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: ((فهل أسلمْتَ؟))،قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، قال: ((نَعَم، تفعل الخيرات، وتترُك السيئات، فيجعلهن الله لك خيراتٍ كُلَّهُنَّ))، قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟ قال: ((نعم))، قال: الله أكبر، فما زال يُكبِّر حتى توارى))؛ صحيح الترغيب.
يا نفْسُ تُوبي فإنَّ الموتَ قد حانا
واعْصي الهوى فالهوى ما زال فتَّانا
أما تريْنَ المنايا كيف تَلقُطُنا
لَقْطًا وتُلْحِقُ أُخْرانا بأُولانا
في كُلِّ يومٍ لنا مَيْتٌ نُشِيِّعُه
نرى بمصْرَعِهِ آثارَ مَوْتانا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ التوَّابين، وسيِّد الآيبين؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إنِّي لأستغفر الله وأتُوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرةً))؛ البخاري.
وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها الناس، تُوبُوا إلى الله، فإني أتوبُ في اليوم إليه مائة مرة)).
ومن جميل قول أحد الحكماء: "حرفة العارف ستة أشياء: إذا ذكر الله افتخَر، وإذا ذكر نفسَه احتقر، وإذا نظَر في آيات الله اعتبر، وإذا هَمَّ بمعصية أو شهوة انزجَر، وإذا ذكر عفْوَ الله استبشر، وإذا ذكر ذنوبَه استغفر".
وقد جعل العلماء للتوبة الصحيحة خمسة شروط:
1- أن تكون خالصةً لله، دافعَها التقرُّب إلى الله، والخوف من عقابه، والطَّمَع في عَفْوِه ورِضاه.
جزاك الفردوس الأعلى من الجنــــــــــان
لروعة طرحك القيم والمفيد
لـ عطرك الفواح في ارجاء المنتدى كل الأمتنان
أتمنى أن لاننــحرم طلتك الربيعية
لك أجمل التحايا و أعذب الأمنيات
عناقيد من الجوري تطوقك فرحاا دمت بطاعة الله لك العطـــاء
يسلموااااااااااااااااا