{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ} جمع «آية»، وهي العلامة، ثم أطلقت الآية على الحجة لأن الحجة علامة على الحق، وكل آية في القرآن فهي علامة على منزلها لما فيها من الإعجاز والتحدي. ولذلك سميت معجزة الرسول «آية» كما في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} [لأعراف:203]
وإنما سميت «آية» لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدى النبي به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره.
فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية. وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من قول الراوي: "فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم"، فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن، إذ لم يجد لها اسما يعبر به عنها.
{مُحْكَمَاتٌ} متقنات في الدلالة والحكم والخبر؛ معلومة ما فيها إشكال، قال السلف: المحكم الذي يعمل به كأصول الاعتقاد والتشريع، والآداب والمواعظ. قال يحيى بن يَعْمَر: "الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام".
وكانت أصولا لذلك باتضاح دلالتها، بحيث تدل على معان لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالا ضعيفا غير معتد به. وباتضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوع إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده، ويرجع إليه أيضا عند الاشتباه، وقدم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أنه يرد المتشابهات إلى المحكمات؛ لأنها أم، وأم الشيء مرجعه وأصله، قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، أي: المرجع، وهو «اللوح المحفوظ» الذي تُرجع الكتابات كلها إليه، ومنه سُميت الفاتحة «أم الكتاب»؛ لأن مرجع القرآن إليها، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]