10-06-2019
|
|
والأرض ذات الصدع
﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: 12]
مقدمة:
في سورة من قصار المفصل جاء الإخبار عن عدد من الحقائق العلمية، هذه السورة هي سورة الطارق، وهي سورة مكية عدد آياتها 17آية، فافتتحت بالقسم بالسماء تفخيماً لها وتعظيماً لشأنها، ثم تناولت هذه السورة الحديث عن الطارق.
وجاء تفسيره بأنه النجم الثاقب، ثم انتقل السياق في السورة إلى الكلام عن الإنسان، وأن مع كل إنسان حافظ من الملائكة يحفظه ويحفظ عنه أعماله، ومن ثم يواصل السياق الحديث عن خلق الإنسان، وأنه مخلوق من ماء دافق، وفي هذا تذكير له بالأصل الذي منه خلق، وبعد هذا يأتي التأكيد على البعث والنشور وإعادة الإنسان يوم القيامة للحساب والجزاء على أعماله.
ويتوالى السرد لعدد آخر من الحقائق الكونية، فيقسم الله تعالى بالسماء، وتوصف السماء بأنها ذات الرجع، ويقسم بالأرض، وتوصف الأرض بأنها ذات الصدع، وهاتان حقيقتان كشف العلم الحديث عنهما بصورة واضحة ومتطابقة مع هذا الإخبار الإلهي، ومن خلال ما سبق يأتي جواب القسم ليؤكد صدق هذا الوحي المنزل من عند الله عز وجل، ويصفه بأنه قول فصل خالٍ من كل معاني الهزل.
وتختتم السورة بطمأنة المؤمنين وتهديد الكافرين الماكرين، وأن الله تعالى سيتولى عقابهم. وفي هذا البحث سنتناول إحدى هذه الحقائق، وهي الأرض ذات الصدع، والسبق القرآني في ذلك.
التفسير اللغوي لقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: 12]:
يقول صاحب اللسان: "الصَّدْعُ الشَّقُّ في الشيءِ الصُّلْبِ كالزُّجاجةِ والحائِطِ وغيرهما، وجمعه صُدُوعٌ، وصَدَعَ الشيءَ يَصْدَعُه صَدْعاً وصَدَّعَه فانْصَدَعَ وتَصَدَّعَ شَقّه بنصفين، وقيل صَدّعه شقّه ولم يفترق، وقوله عز وجل: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الروم:43].
قال الزجاج: معناه يَتَفَرَّقُون فيصيرون فَرِيقَيْنِ فريق في الجنة وفريق في السعير، وصَدَعَ الشيءَ فَتَصَدَّعَ فرّقه فتفرَّقَ، والتصديعُ التفريقُ، وفي حديث الاستسقاء فتَصَدَّعَ السَّحابُ صِدْعاً أَي تقطَّعَ وتفرَّقَ، يقال صَدَعْتُ الرّداء صَدْعاً إِذا شَقَقْتَه، وتصَدَّعَ القوم تفرَّقُوا"(1).
أقوال المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: 12]:
جاء في تفسير الطبري: "وقوله: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ يقول تعالى ذكره: والأرض ذات الصدع بالنبات"(2)، وينقل الطبري جملة من الأقوال في هذه الآية عن السلف: فعن ابن عباس ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ قال: ذات النبات، وعنه أيضاً من طريق آخر يقول: صدعها إخراج النبات في كل عام، وعن الحسن قال: هذه تصدع عما تحتها.
وعن مجاهد: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ مثل المأزم مأزم منى، وعنه من طريق آخر يقول: الصدع: مثل المأزم غير الأودية وغير الجرف(3). والمأزم هو كلُّ طريق ضيِّق بين جبلين، وهو المَضِيقُ في الجبال حتى يَلتَقِي بعضُها ببعض ويَتَّسِع ما وَرَاءه(4).
ويقول ابن كثير: "﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد"(5).
ويقول القرطبي: "قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ قسم آخر، أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار، نظيره ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً﴾ [عبس: 26] الآية، والصدع: بمعنى الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع به، وكأنه قال: والأرض ذات النبات؛ لأن النبات صادع للأرض.
وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها"(6).
ويقول الشوكاني: "﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر، والصدع: الشق؛ لأنه يصدع الأرض فتنصدع له، قال أبو عبيدة والفراء: تتصدع بالنبات.
وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه، وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث. والحاصل أن الصدع إن كان اسماً للنبات فكأنه قال: والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق فكأنه قال: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه"(7).
ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس في هذه الآية قوله: "﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾: تصدع الأدوية"(8).
قوله تعالى: ﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة:
من المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معنى انصداعها عن النبات، أي انشقاقها عنه، ولكن لما كانت لفظة الأرض قد جاءت في القرآن الكريم بمعني التربة التي تغطي صخور اليابسة، وبمعني كتل اليابسة التي نحيا عليها، وبمعني كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لابد وأن تكون له دلالة في كل معنى من معاني كلمة الأرض كما نجده في الشرح التالي:
أولاً: انصداع التربة عن النبات:
الصدع لغة هو كسر في الأرض تتحرك الأرض على جانبي مستواه حركة أفقية، أو رأسية أو مائلة. وتربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل، وهي معادن دقيقة الحبيبات (أقطارها أقل من0.004 من الملليمتر) وتتركب أساساً من سيليكات الألومنيوم على هيئة رقاقات متبادلة من كل من السيليكا (ثاني أكسيد السيليكون) والألومينا (ثالث أكسيد الألومنيوم) مع عناصر أخرى كثيرة، ويحمل كل راق على سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة على حسب نوع الصلصال المركب منه.
والصلصال من المعادن الغروية، والمواد الغروية لها قدرة الانتشار في غيرها من المواد نظراً لدقة حبيباتها، كما أن لها القدرة على تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر، ولذلك فإنه عند نزول الماء على التربة أو عند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي إلى انتفاشها وزيادة حجمها، فتهتز حبيباتها، وتربو إلى أعلى حتى ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقاً سهلاً لكل من الجذير المندفع إلى أسفل، والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة إلى أعلى حتى تتمكن من اختراق التربة بسلام.
وتظهر على سطح الأرض مستمرة في النمو لتغطي باقي أجزاء النبات. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريّها ما أنبتت الأرض على الإطلاق، ومن هنا كان ذلك وجهاً من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة(9).
ثانياً: تصدع صخور اليابسة:
نتيجة لتعرض صخور قشرة الأرض للإجهاد بالشد أو بالتضاغط تتكسر تلك الصخور بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة على هيئة شقوق في قشرة الأرض، تمزق صخورها إلى كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة على جوانب مستويات تلك الشقوق.
كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بإزاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة على سطح الأرض، بما يعين على تخفيف الضغط على الصخور الموجودة أسفل منها وبالتالي تخفيف شدة الإجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدد فتتشقق على هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور إلى كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل(10).
وغالبية فواصل الأرض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين أو أكثر، وإن كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد وأغلبها قليل العمق. وتحدث فواصل قشرة الأرض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض قريباً من سطحها أو إلى سطحها على هيئة متداخلات نارية أو طفوح بركانية.
أما صدوع الأرض فهي كسور في قشرتها، يتم عبرها تحرك صخورها على جانبي مستوى الصدع حركة أفقية، أو رأسية، أو مائلة بدرجة ملحوظة، وتتراوح أبعاد تلك الصدوع تبايناً كبيرا، فمنها مالا يرى بالعين المجردة، ولا تكاد الحركة عبر مستواه تدرك، ومنها ما يمتد لعشرات الكيلومترات، وتبلغ الحركة عبر مستواه مبلغاً عظيما.
ومن هذه الصدوع ما يتكون نتيجة لشد صخور الأرض في اتجاهين متعاكسين، ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط في اتجاهين متقابلين، كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض. وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عدداً من الهزات الأرضية، أما الصدوع القديمة فقد أصبح أغلبها خاملاً بلا حراك.
ولصدوع الأرض أهمية بالغة لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الأرض وسطحها، تتحرك عبرها الأبخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية، كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصر اللازمة لتجديد صخور وتربة سطح الأرض.
والصدوع تلعب أدواراً مهمة في تكوين كل من النتوءات والخسوف الأرضية، والينابيع المائية، وبعض المكامن البترولية، كما تعين عمليات التعرية المختلفة في شق الفجاج والسبل، وفي تكوين الأودية والمجاري المائية، وفي جميع عمليات التعرية وتسوية سطح الأرض، وما يستتبعه ذلك من تكوين كل من التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما بها من الثروات الأرضية. وكما تكون الصدوع عاملاً من عوامل الهدم على سطح الأرض فإنها قد تكون عاملاً من عوامل البناء، فتبني الجبال والتلال والهضاب، كما تبني الأحواض، والأغوار، والخسوف الأرضية(11).
ثالثاً: تصدع الأرض ككوكب بواسطة أودية الخسف:
على الرغم من التعرف على عدد من أودية الخسف (الصدوع العملاقة) على سطح الأرض منذ زمن بعيد إلا أن العلماء قد اكتشفوا في العقود الثلاثة الماضية أن أرضنا محاطة بشبكة هائلة من تلك الأودية الخسيفة (الصدوع العملاقة) التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة، ويشبهها العلماء باللحام على كرة التنس.
وتمتد هذه الصدوع العملاقة لآلاف الكيلومترات في جميع الاتجاهات بأعماق تتراوح بين 65 ـ70 كيلومتراً تحت قيعان كل محيطات الأرض وقيعان عدد من بحارها، وبين 100ـ 150 كيلومتراً تحت القارات، ممزقة الغلاف الصخري للأرض بالكامل إلى عدد من الألواح التي تعرف باسم ألواح الغلاف الصخري للأرض، وتطفو هذه الألواح الصخرية فوق نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق لدن، شبه منصهر، عالي الكثافة واللزوجة، وتنطلق فيه تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى، حيث تبرد وتعاود النزول إلى أسفل فتدفع معها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة عن بعضها البعض في إحدى حوافها، ومصطدمة مع بعضها البعض عند الحواف المقابلة، ومنزلقة عبر بعضها البعض عند بقية الحواف.
وينتج عن هذه الحركات لألواح الغلاف الصخري للأرض عدد من الظواهر الأرضية المهمة التي منها اتساع قيعان البحار والمحيطات، وتجدد صخورها باستمرار عند حواف التباعد، وتكون سلاسل من جبال أواسط المحيطات ومن الجزر البركانية، ومنها تكون السلاسل الجبلية عند حواف التصادم حيث يستهلك قاع المحيط تحت كتلتي القارتين المقابلتين له، وتصاحب العمليتان بالهزات الأرضية وبكم هائل من الطفوح البركانية، ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من64000 كيلومتر، وهي تتكون أساساً من الصخور البركانية المختلطة بقليل من الرواسب البحرية، وتحيط بالصدوع العملاقة.
ومع تجدد صعود الطفوح البركانية عبر هذا الصدع العملاق (الوادي الخسيف) في وسط سلسلة الجبال البحرية يتجدد قاع المحيط بأحزمة حديثة من الصخور البازلتية المتوازية على جانبي الوادي الخسيف، ويهبط قاع المحيط بنصف معدل اتساع قاعه عند كل من شاطئيه، وبذلك تكون أحدث صخور قاع المحيط حول محوره الوسطي، وأقدمها عند هبوط قاع المحيط تحت كتل القارتين المحيطتين به(12).
وهذه الحركة لألواح الغلاف الصخري للأرض كانت سبباً في زحف القارات، وتجمعها وتفتتها بصورة دورية، فيما يعرف باسم دورة القارات والمحيطات، وفيها قد تنقسم قارة ببحر طولي مثل البحر الأحمر إلى كتلتين أرضيتين تتباعدان عن بعضهما البعض باتساع قاع البحر الفاصل بينهما حتى يتحول إلى محيط، كما قد يستهلك قاع محيط بالكامل تحت إحدى القارات بدفع كتلة أرضية له تحت تلك القارة حتى يصطدما مكونين أعلى سلاسل جبلية على سطح الأرض، كما حدث في اصطدام الهند بالقارة الآسيوية، وتكون سلسلة جبال الهمالايا، وبها قمة (إفرست) أعلى قمة جبلية على سطح الأرض.
وهذه الصدوع العملاقة (الأودية الخسيفة) التي تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 ـ150 كيلومترا، وبطول يقدر بعشرات الآلاف من الكيلومترات في كل الاتجاهات هي مراكز تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة أو مصطدمة أو منزلقة عبر بعضها البعض. وهذه الصدوع العملاقة تعمل كممرات طبيعية للحرارة المختزنة في داخل الأرض والناتجة عن تحلل العناصر المشعة، ولولاها لانفجرت الأرض(13).
وعبر هذه الصدوع العملاقة تندفع ملايين الأطنان من الصهارة الصخرية على هيئة طفوح بركانية تثري سطح الأرض بالعديد من الصخور والمعادن النافعة، وتجدد شباب التربة الزراعية، وتكون مراكز مهمة لاستغلال الحرارة الأرضية. وعبر هذه الصدوع العملاقة وما صاحبها من فوهات البراكين انطلقت الغازات والأبخرة التي كونت غلافي الأرض المائي والغازي، ولا تزال تنطلق لتجددهما، وخلال تلك العملية تفقد الأرض من كتلتها إلى فسحة السماء بعضاً من مادتها، وطاقتها تتناسب مع ما تفقده الشمس من كتلتها على هيئة طاقة حتى تظل المسافة بين الأرض والشمس ثابتة، لا تنقص فتحرقنا أشعة الشمس، أو تبتلعنا، ودرجة حرارة لهيبها 15مليون درجة مئوية، ولا تزيد فيتجمد وتتجمد الحياة من حولنا، أو تنفلت من عقال جاذبيتها فتضيع في فسحة الكون الشاسع، ليس هذا فقط، بل إن الغلاف الصخري للأرض قد تكون أيضاً عبر تلك الصدوع العملاقة، وذلك لأن الكثير من الشواهد الأرضية تشير إلى أن الغلاف الصخري الأول للأرض كان مكوناً من صخور البازلت الشبيهة بصخور قيعان البحار والمحيطات الحالية، وبالصخور المندفعة عبر الصدوع التي تمزقها، وإن الأرض كانت مغطاة بالمياه على هيئة محيط غامر واحد، وبواسطة النشاط البركاني فوق قاع هذا المحيط الغامر تكونت أولى المرتفعات فوق قاعه على هيئة عدد من السلاسل الجبلية في وسطه، ارتفعت قممها لتكون عدداً من الجزر البركانية.
ومع تحرك تلك الجزر البركانية تصادمت مع بعضها البعض لتكون نوى عدد من القارات التي نمت بتصادمها مع بعضها لتكون قارة واحدة عرفت باسم القارة الأم Mother Continent or Pangaea التي ما لبثت أن تفتتت بفعل ديناميكية الأرض وصدوعها العملاقة إلى القارات السبع الحالية التي ظلت تتباعد عن بعضها حتى وصلت إلى مواقعها الحالية.
وعبر صدوع الأرض العملاقة تكونت القشرة القارية بتركيبها الذي تغلب عليه الصخور الجرانيتية، وأثريت تلك القشرة ولا تزال تثرى بمختلف العناصر والمركبات على هيئة العديد من المعادن والركازات ذات القيمة الاقتصادية، وتكونت السلاسل الجبلية التي تثبت بأوتادها كتل القارات في قيعان البحار والمحيطات، أو تثبت قارتين ببعضهما البعض بعد استهلاك قاع المحيط الفاصل بينهما تحت إحداهما، وثارت البراكين ورجفت الأرض بالزلازل، وتحركت دورات الماء والصخور وعوامل التعرية، وتكونت التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما تختزنه من الثروات الأرضية، وأصبحت الأرض صالحة لعمرانها بالحياة.
وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض وقيعان عدد من بحارها (من مثل البحر الأحمر) توجد أيضاً على اليابسة وتعمل على تكوين بحار طولية شبيهة بالبحر الأحمر لتفتيت اليابسة إلى عدد أكبر من القارات وأشباه القارات، وتحاط تلك الصدوع القارية العملاقة بعدد من الجبال البركانية العالية من مثل جبل آرارات في شرق تركيا (5100م فوق مستوى سطح البحر)، ومخروط بركان أتنا في شمال شرقي صقلية (330م فوق مستوى سطح البحر)، ومخروط بركان فيزوف في خليج نابلي بإيطاليا (1300م فوق مستوى سطح البحر)، وجبل كيليمنجارو في تنجانيقا (5900م فوق مستوى سطح البحر)، وجبل كينيا في جمهورية كينيا (5100م فوق مستوى سطح البحر)(14).
صورتان توضحان مجموعة من الصدوع التي تحيط بالأرض والتي تشكل باتصالها صدعاً واحداً وهذا يطابق ما أخبر القرآن الكريم عنه
وجه الإعجاز:
تعتبر الصدوع التي تقطع القشرة الصخرية الخارجية من الأرض لعشرات الآلاف من الكيلومترات، وفي جميع الاتجاهات، ولأعماق تصل إلى ما بين 65 إلى 150 كم من أبرز علامات الكرة الأرضية، ولم تكتشف هذه الصدوع إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وتم شرحها من خلال نظرية الألواح التكتونية التي تمت صياغتها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي(15).
فسبحان الذي وصف الأرض من قبل ألف وأربعمائة سنة بأنها ذات صدع، لأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع العملاقة أو الأودية الخسيفة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين 65ـ150 كيلومترا، وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة في كل الاتجاهات تتصل ببعضها البعض وكأنها صدع واحد. وسبحان الذي أقسم بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربعمائة سنة تفخيماً لظاهرة من أروع ظواهر الأرض وأكثرها إبهاراً للعلماء، وأشدها لزوماً لجعل الأرض كوكباً صالحاً للحياة وللعمران، لأنه بدونها لم يكن ممكناً للأرض أن تكون صالحة لذلك، فعبر هذه الصدوع العملاقة خرج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض، ولا يزالان يتجددان، وعبر النشاط الملازم لها تحركت ألواح الغلاف الصخري الأولي للأرض فتكونت القارات والسلاسل الجبلية، والجزر البركانية، وتجددت قيعان المحيطات، وتزحزحت القارات، وتبادلت اليابسة والمحيطات وثارت البراكين لتخرج قدراً من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض، والتي كان من الممكن أن تفجرها لو لم تتكون تلك الصدوع العملاقة، وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية، ونشطت ديناميكية الأرض، وثبتت ألواح غلافها الصخري بالجبال.
وهنا نرى في صدوع الأرض أبعاداً ثلاثة: بعد لا يتعدى بضعة ملليمترات أو بضعة سنتيمترات في انصداع التربة عن النبات، وبعد آخر في صدوع اليابسة التي تمتد الحركات الأرضية عبر مستوياتها من عشرات السنتيمترات إلى مئات الأمتار، وبعد ثالث في الصدوع العملاقة التي تنتشر أساساً في قيعان المحيطات. كما توجد في بعض أجزاء اليابسة على هيئة أغوار سحيقة تتراوح أعماقها بين65 كيلومترا، و150 كيلومتراً، وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة على هيئة صدع واحد، ونرى أهمية كل بعد من هذه الأبعاد في تهيئة الأرض للعمران.
ومن هنا كان القسم القرآني بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربعمائة سنة، والعلم الكوني لم يصل إلى كشف تلك الحقيقة إلا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، ولم يكن لأحد في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بتلك الحقيقة الأرضية، أو إدراك لشيء من جوانبها، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لها قبل ألف وأربعمائة من السنين غير الله الخالق.
وهذا السبق القرآني بالإشارة إلى تلك الحقيقة الأرضية وإلى غيرها من الحقائق الكونية هو ما يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن هذا النبي الخاتم، والرسول الخاتم، الذي أوحي إليه القرآن، كان دوماً موصولاً بالوحي، ومعلماً من قبل خالق السماوات والأرض ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4]
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|