ثم نبههم على الدليل العقلي، الدال على عدم استبعاد البعث، الذي استبعدوه، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، من السماء والأرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما، ما يبهر العقول، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول، وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات، أعظم من إعادة الناس - بعد موتهم - من قبورهم، فما الحامل لهم، على ذلك التكذيب مع التصديق، بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن، ما شاهدوه، فلذلك كذبوا به.
قال اللّه: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} أي: من العذاب، لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا، فإن أمرناهما لم يستعصيا، فاحذروا إصراركم على تكذيبكم، فنعاقبكم أشد العقوبة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: خلق السماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات {لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}
فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه، كان انتفاعه بالآيات أعظم، لأن المنيب مقبل إلى ربه، قد توجهت إراداته وهماته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره، فصار قريبا من ربه، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة.
يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.
فمن لطفه بعبده المؤمن، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه.
ومن لطفه أن أمر المؤمنين، بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض.
ومن لطفه، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه، أو على معصية صرفها عنه، وقدر عليه رزقه، ولهذا قال هنا: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} بحسب اقتضاء حكمته ولطفه {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} الذي له القوة كلها، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به، الذي دانت له جميع الأشياء.
يقول تعالى: {وكذلك بعثناهم} أي: من نومهم الطويل {ليتساءلوا بينهم} أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة من مدة لبثهم.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وهذا مبني على ظن القائل، وكأنهم وقع عندهم اشتباه. في طول مدتهم، فلهذا {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلا، ولعل الله تعالى -بعد ذلك- أطلعهم على مدة لبثهم، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم، وأخبر أنهم تساءلوا، وتكلموا بمبلغ ما عندهم، وصار آخر أمرهم، الاشتباه، فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم، وأنه لا يفعل ذلك عبثا. ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك، وبما ذكر فيما بعده من قوله. {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} فلولا أنه حصل العلم بحالهم، لم يكونوا دليلا على ما ذكر، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم، وجرى منهم ما أخبر الله به، أرسلوا أحدهم بورقهم، أي: بالدراهم، التي كانت معهم، ليشتري لهم طعاما يأكلونه، من المدينة التي خرجوا منها، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه، أي: أطيبه وألذه، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه، وأن يختفي في ذلك، ويخفي حال إخوانه، ولا يشعرن بهم أحدًا.
يقول الله لنبيه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} أي: كثرة تردده في جميع جهاته، شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة، وقال: {وَجْهِكَ} ولم يقل: " بصرك " لزيادة اهتمامه، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} أي: نوجهك لولايتنا إياك، {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي: تحبها، وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم، حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه، ثم صرح له باستقبالها فقال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان، {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} أي: من بر وبحر، وشرق وغرب، جنوب وشمال. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي: جهته. ففيها اشتراط استقبال الكعبة، للصلوات كلها، فرضها، ونفلها، وأنه إن أمكن استقبال عينها، وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن، مبطل للصلاة، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم، المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم، ذكر هنا، أن أهل الكتاب والعلم منهم، يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم، فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه، إذا كان الأمر مشتبها، وكان ممكنا أن يكون معه صواب. فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه، وأن المعترض معاند، عارف ببطلان قوله، فإنه لا محل للمبالاة، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية، فلهذا قال تعالى: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين، وتسلية للمؤمنين.
ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذي هو أجل المساجد على الإطلاق {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء.
فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته، وأراه الله من آياته ما ازداد به هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع أموره وخوله نعما فاق بها الأولين والآخرين، وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل وأنه من نفس المسجد الحرام، لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم، فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد، وأن الإسراء بروحه وجسده معا وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة.
وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء، وذكر تفاصيل ما رأى وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق السماوات العلى ورأى الجنة والنار، والأنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل، وخمسين بالأجر والثواب، وحاز من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل.
وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبودية ربه.
وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي: بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم.
ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه.
وأخبرنا بني إسرائيل وأعلمناهم في التوراة أنه لا بد أن يقع منهم فساد في الأرض بفعل المعاصي والبطر مرتين، وليَسْتَعْلُنَّ على الناس بالظلم والبغي متجاوزين الحد في الاستعلاء عليهم.
فإذا حصل منهم الإفساد الأول سَلَّطْنا عليهم عبادًا لنا أصحاب قوة وبطش عظيم يقتلونهم ويشردونهم، فجالوا بين ديارهم يفسدون ما مروا عليه، وكان وعد الله بذلك واقعًا لا محالة.
ثم أعدنا لكم - يا بني إسرائيل - الدولة والغلبة على من سُلِّطوا عليكم عندما تبتم إلى الله، وأمددناكم بأموال بعد نهبها، وأولادٍ بعد سبيهم، وصيرناكم أكثر جمعًا من أعدائكم.
إن أحسنتم - يا بني إسرائيل - أعمالكم، وجئتم بها على الوجه المطلوب، فجزاء ذلك عائد لكم، فالله غني عن أعمالكم، وإن أسأتم أفعالكم فعاقبة ذلك عليكم، فالله لا ينفعه إحسان أفعالكم، ولا تضره إساءتها، فإذا حصل الإفساد الثاني سلطنا عليكم أعداءكم ليخزوكم، ويجعلوا المساءة ظاهرة على وجوهكم، لما يذيقونكم من صنوف الهوان، وليدخلوا بيت المقدس ويخربوه كما دخلوه وخربوه المرة الأولى، وليدمروا ما غلبوا عليه من البلاد تدميرًا كاملاً.
عسى ربكم - يا بني إسرائيل - أن يرحمكم بعد هذا الانتقام الشديد إن تبتم إليه، وأحسنتم أعمالكم، وإن رجعتم إلى الإفساد مرة ثالثة أو أكثر رجعنا إلى الانتقام منكم، وصَيَّرنا جهنم للكافرين بالله فراشًا ومهادًا لا يتخلون عنه.
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: يخاف منه الصواعق والهدم وأنواع الضرر، على بعض الثمار ونحوها ويطمع في خيره ونفعه،
{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} بالمطر الغزير الذي به نفع العباد والبلاد.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد، فهو خاضع لربه مسبح بحمده، {و} تسبح {الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أي: خشعا لربهم خائفين من سطوته، {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} وهي هذه النار التي تخرج من السحاب، {فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي: شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله، ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب.
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم، وهو الذي يدبر الأمور، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له.
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز، ويدع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبير فائدة، مع عدم علمكم بغيرها.وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه، ويدله على ما يحتاج إليه، ويرشده إلى ما ينفعه
ولله - سبحانه - الأسماء الحسنى التي تدل على جلاله وكماله، فتوسَّلوا بها إلى الله في طلب ما تريدون وأثنوا عليه بها، واتركوا الذين يميلون عن الحق في هذه الأسماء بجعلها لغير الله، أو نفيها عنه، أو تحريف معناها أو تشبيه غيره بها، سنجزي هؤلاء الذين يميلون بها عن الحقِّ: العذاب المؤلم بما كانوا يعملون.
يقول تعالى ـ مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.
{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.
فمن لطفه بعبده المؤمن، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه.
ومن لطفه أن أمر المؤمنين، بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض.
ومن لطفه، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه، أو على معصية صرفها عنه، وقدر عليه رزقه، ولهذا قال هنا: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} بحسب اقتضاء حكمته ولطفه {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} الذي له القوة كلها، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به، الذي دانت له جميع الأشياء.
ومن ذلك: الناس والدواب، والأنعام، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات، ما هو مرئي بالأبصار، مشهود للنظار، والكل من أصل واحد ومادة واحدة.
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى، التي خصصت ما خصصت منها، بلونه، ووصفه، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك، وحكمته ورحمته، حيث كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح والمنافع، ومعرفة الطرق، ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.
وذلك أيضا، دليل على سعة علم اللّه تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها.
ولهذا قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فكل من كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية اللّه، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية اللّه، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
{إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ} كامل العزة، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات.
{غَفُورٌ} لذنوب التائبين.
وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا يتحمل أحد عن أحد ذنبا
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} في الآخرة فيميز حسنه من سيئه.
{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسوأى، والمشوب بحسبه، جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه، حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} من يرى أن القرب لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى} فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي: إليه تنتهي الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات.
يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.
و {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر:
{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم، وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.
وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب {وما عند الله خير للأبرار}
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه.
وجاءه رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، فمال صلى الله عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاء لهداية ذلك الغني، وطمعا في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف، فقال: {عَبَسَ} [أي:] في وجهه {وَتَوَلَّى} في بدنه،
ï´؟أَن جاءَهُ الأَعمىï´¾
لأجل مجيء الأعمى له،
ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ} أي: الأعمى {يَزَّكَّى} أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟
قال تعالى:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه
أي: حث أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل. والأمر بالشيء، أمر بجميع ما لا يتم إلا به، فيكون أمرا بتعليمهم، ما يصلح الصلاة ويفسدها ويكملها.
{وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي: على الصلاة بإقامتها، بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها، فإن ذلك مشق على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك، والصبر معها دائما، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم، وإذا ضيعها كان لما سواها أضيع، ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} أي: رزقك علينا قد تكفلنا به، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق كلهم، فكيف بمن قام بأمرنا، واشتغل بذكرنا؟! ورزق الله عام للمتقي وغيره، فينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو: التقوى، ولهذا قال: {وَالْعَاقِبَةُ} في الدنيا والآخرة {لِلتَّقْوَى} التي هي فعل المأمور وترك المنهي، فمن قام بها، كان له العاقبة، كما قال تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي، والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟. و " الملكوت "ب صيغة مبالغة بمعنى الملك. {وَهُوَ يُجِيرُ} عباده من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا يقدر أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه
يقول تعالى ـ مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.
{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
ثم دعا عليه السلام ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا أي: علما كثيرا، أعرف به الأحكام، والحلال والحرام، وأحكم به بين الأنام، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من إخوانه الأنبياء والمرسلين.
واجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ أي: اجعل لي ثناء صدق، مستمر إلى آخر الدهر. فاستجاب الله دعاءه، فوهب له من العلم والحكم، ما كان به من أفضل المرسلين، وألحقه بإخوانه المرسلين، وجعله محبوبا مقبولا معظما مثنًى عليه، في جميع الملل، في كل الأوقات.
قال تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .
-والجامع لمعناه أنه سليم من الشرور كلها ومن أسبابها، ملآن من الخير والبر والكرم، سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين، ومن الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله، سليم من الكبر ومن الرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وسليم من الغل والحقد، ملآن بالتوحيد والإيمان والتواضع للحق وللخلق، والنصيحة للمسلمين والرغبة في عبودية الله، وفي نفع عباد الله.
تفسير السعدي رحمه الله
م€گ تيسير اللطيف المنان (ظ¢ظ،ظ¤/ظ،) م€‘
{فَاصْبِرْ} على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه، ولو رأيت منهم إعراضا فلا يصدنك ذلك. {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أي: لا شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع بل سيجده كاملا هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل كثير. {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} أي: قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلامهم وقل صبرهم، فإياك أن يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف [العقل] خفيفه. فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان.
{وَكَذَلِكَ} حين أوحينا إلى الرسل قبلك {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وهو هذا القرآن الكريم، سماه روحا، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير. وهو محض منة الله على رسوله وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال: {مَا كُنْتَ تَدْرِي} أي: قبل نزوله عليك {مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميا لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: تبينه لهم وتوضحه، وتنيره وترغبهم فيه، وتنهاهم عن ضده، وترهبهم منه، ثم فسر الصراط المستقيم فقال: {صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله، والنزول في منزل الإحسان فقال: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ)
( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي: يراك في هذه العبادة العظيمة، التي هي الصلاة، وقت قيامك، وتقلبك راكعا وساجدا خصها بالذكر، لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه، خشع وذل، وأكملها، وبتكميلها، يكمل سائر عمله، ويستعين بها على جميع أموره.
أي: الباري تبارك وتعالى، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم، قويهم وعاجزهم، فكم {مِنْ دَابَّةٍ} في الأرض، ضعيفة القوى، ضعيفة العقل. {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} ولا تدخره، بل لم تزل، لا شيء معها من الرزق، ولا يزال اللّه يسخر لها الرزق، في كل وقت بوقته.
{اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} فكلكم عيال اللّه، القائم برزقكم، كما قام بخلقكم وتدبيركم، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فلا يخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.
كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
ثم قال: {وَلَا تَلْبِسُوا} أي: تخلطوا {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} فنهاهم عن شيئين، عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم، تمييز الحق، وإظهار الحق، ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته، ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبس الحق بالباطل، فلم يميز هذا من هذا، مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه، وأمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
{مِنْ مَحَارِيبَ} وهو كل بناء يعقد، وتحكم به الأبنية، فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة، {وَتَمَاثِيلَ} أي: صور الحيوانات والجمادات، من إتقان صنعتهم، وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أي: كالبرك الكبار، يعملونها لسليمان للطعام، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره، " و " يعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها، من عظمها.
فلما ذكر منته عليهم، أمرهم بشكرها فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ} وهم داود، وأولاده، وأهله، لأن المنة على الجميع، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. {شُكْرًا} للّه على ما أعطاهم، ومقابلة لما أولاهم. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فأكثرهم، لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولاهم من نعمه، ودفع عنهم من النقم.
والشكر: اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى، وتلقيها افتقارا إليها، وصرفها في طاعة اللّه تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية.
هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، {إني فاعل ذلك} من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره.
{فَاصْبِرْ} على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه، ولو رأيت منهم إعراضا فلا يصدنك ذلك.
{إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أي: لا شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع بل سيجده كاملا هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل كثير.
{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} أي: قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلامهم وقل صبرهم، فإياك أن يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف [العقل] خفيفه.
فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان.
ثم قال عن أهل الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} بتوحيده والعمل بطاعته، سوق إكرام وإعزاز، يحشرون وفدا على النجائب. {إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة، التي تناسب عملها وتشاكله. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة، وهبَّ عليهم ريحها ونسيمها، وآن خلودها ونعيمها. {وَفُتِحَتْ} لهم {أَبْوَابُهَا} فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تهنئة لهم وترحيبا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: سلام من كل آفة وشر حال.عليكم {طِبْتُمْ} أي: طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته، وألسنتكم بذكره، وجوارحكم بطاعته. {فـ} بسبب طيبكم {ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} لأنها الدار الطيبة، ولا يليق بها إلا الطيبون.
وقال في النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وفي الجنة {وَفُتِحَتْ} بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها.
وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه اللّه تعالى.
وفي الآيات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق، وأن لكل منهما خزنة، وهما الداران الخالصتان، اللتان لا يدخل فيهما إلا من استحقهما، بخلاف سائر الأمكنة والدور.
{وَقَالُوا} عند دخولهم فيها واستقرارهم، حامدين ربهم على ما أولاهم ومنَّ عليهم وهداهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: وعدنا الجنة على ألسنة رسله، إن آمنا وصلحنا، فوفَّى لنا بما وعدنا، وأنجز لنا ما منَّانا. {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أي: أرض الجنة {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي: ننزل منها أي مكان شئنا، ونتناول منها أي نعيم أردنا، ليس ممنوعا عنا شيء نريده. {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الذين اجتهدوا بطاعة ربهم، في زمن قليل منقطع، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا.
وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة، التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه،.ورضيها الجواد الكريم لهم نزلا، وبنى أعلاها وأحسنها، وغرسها بيده، وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه يفرح الحزين، ويزول الكدر، ويتم الصفاء.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي: أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة، وأبعد ما يكون عن الماء، تفجرت فالتقى الماء على أمر، قد قدر.
{قُلْنَا} لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل صنف من أصناف المخلوقات، ذكر وأنثى، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين، فلأن السفينة لا تطيق حملها {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ممن كان كافرا، كابنه الذي غرق.
{وَمَنْ آمَنَ} {و} الحال أنه {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}
يقول تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ} أي: في قضائه وقدره. {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} وهي هذه الشهور المعروفة {فِي كِتَابِ اللهِ} أي في حكمه القدري، {يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ} وأجرى ليلها ونهارها، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [شهرًا].
{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وهي: رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.
{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرام لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها.
ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين.
ولا تخصوا أحدًا منهم بالقتال دون أحد، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم، لا يألونهم من الشر شيئًا.
ويحتمل أن {كَافَّةً} حال من الواو فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين.
وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بعونه ونصره وتأييده، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته، خصوصا عند قتال الكفار، فإنه في هذه الحال، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.
ومع تلك الآيات الواضحة فإن من الناس من يتخذ من دون الله آلهة يجعلونهم نظراء لله تعالى، يحبونهم كما يحبون الله، والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لمعبوداتهم؛ لأنهم لا يشركون مع الله أحدًا، ويحبونه في السراء والضراء، وأما أولئك فإنهم يحبون آلهتهم في حال السراء، أما في الضراء فلا يدعون إلا الله. ولو يرى الظالمون بشركهم وارتكاب السيئات حالَهم في الآخرة حين يشاهدون العذاب؛ لعلموا أن المتفرد بالقوة جميعًا هو الله، وأنه شديد العذاب لمن عصاه، لو يرون ذلك لما أشركوا معه أحدًا.
{وَيْلٌ} أي: وعيد، ووبال، وشدة عذاب {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الذي يهمز الناس بفعله، ويلمزهم بقوله، فالهماز: الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل، واللماز: الذي يعيبهم بقوله.
ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام، ونحو ذلك،
{يَحْسَبُ} بجهله {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} في الدنيا، فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله، الذي يظن أنه ينمي عمره، ولم يدر أن البخل يقصف الأعمار، ويخرب الديار، وأن البر يزيد في العمر.
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب، في شأن أهل الكهف، لعدم علمهم بذلك، وكان الله عالم الغيب والشهادة، العالم بكل شيء، أخبره بمدة لبثهم، وأن علم ذلك عنده وحده، فإنه من غيب السماوات والأرض، وغيبها مختص به، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله، فهو الحق اليقين، الذي لا يشك فيه، وما لا يطلع رسله عليه، فإن أحدا من الخلق، لا يعلمه.
وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون، الولي لعباده المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ولهذا قال: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف، بلطفه وكرمه، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق.
{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، فإنه الحاكم في خلقه، قضاء وقدرا، وخلقا وتدبيرا، والحاكم فيهم، بأمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
ولما أخبر أنه تعالى، له غيب السماوات والأرض، فليس لمخلوق إليها طريق، إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده، وكان هذا القرآن، قد اشتمل على كثير من الغيوب
يخبر تعالى عن [تمام] حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه، فمستقل ومستكثر، فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يثبت قلوبنا على دينه، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير، يخرج خبثها وطيبها.
تفسير السعدي
قال تعالى:
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) المدثر
{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية، فتتكثر بتلك المنة، وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة، بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك، وانس [عندهم] إحسانك، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء.
وقد قيل: إن معنى هذا، لا تعط أحدا شيئا، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
{هم درجات عند الله} أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم. فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم، والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها، وأثبتها في اللوح المحفوظ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها ويحفظوها، ويضبطونها.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟ وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم اللّه بقوله وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم. ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم. وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم