يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم
فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه.
ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره. وقوله:
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي: مآلكم يوم القيامة واجتماعكم بين يدي الله تعالى.
{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر.
أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه ولا تسكن إلا بإذنه.
{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.
وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال:
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر أي: على الله توكلوا لا على غيره لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.
وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.
ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا
وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه
ووعده الله بالكفاية بقوله:
وهذا فيه تنبيه
على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
ورفعة درجته، وعلو منزلته عند اللّه
وعند خلقه، ورفع ذكره.
و { إِنَّ اللَّهَ } تعالى { وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ } عليه
أي: يثني اللّه عليه بين الملائكة
وفي الملأ الأعلى، لمحبته تعالى له
وتثني عليه الملائكة المقربون
ويدعون له ويتضرعون.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
اقتداء باللّه وملائكته
وجزاء له على بعض حقوقه عليكم
وتكميلاً لإيمانكم، وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم
ومحبة وإكرامًا، وزيادة في حسناتكم
وتكفيرًا من سيئاتكم
وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام
ما علم به أصحابه:
"اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد
كما صليت على آل إبراهيم
إنك حميد مجيد
وبارك على محمد وعلى آل محمد
كما باركت على آل إبراهيم
إنك حميد مجيد"
وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه
مشروع في جميع الأوقات
وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة
ذكر في هذه الجملة، المبشَّر، وهم المؤمنون وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة.
وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النعم السارة والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم من ثواب اللّه على أعمالهم ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم
وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه.
نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه.
{ وَلَا تَجَسَّسُوا } أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي.
{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } والغيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه }
ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس [غاية الكراهة]، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته، وأكل لحمه حيًا.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } والتواب، الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية، دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
هذا النهي كغيره
وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم
فإن الخطاب عام للمكلفين
فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة
{ إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله
وذلك لما فيه من المحذور، وهو:
الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟
وهل تكون أم لا؟
وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور
لأن المشيئة كلها لله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }
ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله
وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه
ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة
أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب
وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }
الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله
ويذكر العبد ما سها عنه
وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله
أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين
ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة
وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول:
{ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }
فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه
لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد
تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده
ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد
أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه
وأن يسدده في جميع أموره.
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: إذا قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج مخيرًا بين الإمساك والفراق. { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: على وجه المعاشرة [الحسنة]، والصحبة الجميلة، لا على وجه الضرار، وإرادة الشر والحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه، لا يجوز، { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: فراقًا لا محذور فيه، من غير تشاتم ولا تخاصم، ولا قهر لها على أخذ شيء من مالها.
{ وَأَشْهِدُوا } على طلاقها ورجعتها { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدًا لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه.
{ وَأَقِيمُوا } أيها الشهداء { الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، واقصدوا بإقامتها وجه الله وحده ولا تراعوا بها قريبًا لقرابته، ولا صاحبًا لمحبته، { ذَلِكُمْ } الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فإن من يؤمن بالله، واليوم الآخر، يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ الله، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة، ما يتمكن منها، بخلاف من ترحل الإيمان عن قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، ولا يعظم مواعظ الله لعدم الموجب لذلك، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم، أمر تعالى بتقواه، وأن من اتقاه في الطلاق وغيره فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا.
فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة، في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل الله له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح إذا ندم على الطلاق، والآية، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة.
ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها، واعتبر ذلك بالطلاق، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه، بل أوقعه على الوجه المحرم، كالثلاث ونحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها والخروج منها.
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به.
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه.