التعريف بالسورة
سورة مدنية .
من المثاني .
آياتها 18 .
ترتيبها التاسعة والأربعون .
نزلت بعد المجادلة .
بدأت السورة باسلوب النداء " يا أيها الذين آمنوا "
نهت السورة المسلمين عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي .
1) قال ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله فقال أبو بكر :أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ،وقال عمر : ما أردت خلافك ؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك قوله تعالى : ( يَا أيُّها الذينَ آمنوا لا تُقَدِّموا بينَ يدي اللهِ ورسولهِ إلى قوله وَلو أنَّهم صَبَروا حتَّى تخرجَ إليهم ) (رواه البخاري) .
2) نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوري الصوت وكان إذا كلم إنسانا جهر بصوته فربما كان يكلم رسول الله فيتأذّى بصوته فأنزل الله تعالى هذه الآية .
3) عن أنس : لما نزلت هذه الآية لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي قال ثابت بن قيس :أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي وأنا من أهل النار فَذُكِرَ ذلك لرسول الله فقال : هو من أهل الجنة( رواه مسلم ) .
4) عن أبي بكر قال لما نزلت على النبي ( أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) قال أبو بكر : فآليت على نفسي أن لا أكلم رسول الله إلا كاخي السرار
محاور مواضيع السورة
تتضمن السورة حقائق التربية الخالدة وأس المدنية الفاضلة حتى سماها بعض المفسرين " سورة الأخلاق " .
إن هذه السورة الكريمة ، وهي على وجازتها سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق التربية الخالدة ، وأسس المدنية الفاضلة ، فهي بحق مدرسة متكاملة ، تربّى في ضوئها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
ولقد جاءت لتربي الأمة على سمو الأخلاق وفضائل الأعمال وعلو الهمم .
إنها مدرسة عقيدية وتشريعية وتربوية ، ولذلك فلا عجب أن يُسمي بعض المفسرين هذه السورة بـ (سورة الأخلاق) فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب .
مقاصد السورة
ابتدأت السورة بالأدب الرفيع ، الذي أدّب الله به المؤمنين تجاه شريعة الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ألا يبرموا أمراً ، أو يبدوا رأياً ، أو يقضوا حكماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى يستشيروه ويستمسكوا بإرشاداته الحكيمة ، فلا يقولوا حتى يقول ، ولا يأمروا حتى يأمر ، وأنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب إتباعها ، وتقديمها على غيرها .
ثم انتقلت إلى أدب آخر ، وهو خفض الصوت إذا تحدثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في لين وتكريم ، وألا يكون الرسول كأحدهم ، بل يُميّزونه في خطابهم ، كما تميّز عن غيره ، فيقولوا : يا رسول الله ، يا نبي الله .
ثم مدح الله تعالى من غضّ صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر أن قلوبهم صالحة للتقوى ، ووعدهم بالمغفرة لذنوبهم ، والثواب العظيم لهم في جنات النعيم .
ثم ذمَّ الله تعالى أناساً من الأعراب ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوه في بيته وهو قائل ، فلم يصبروا حتى يخرج ، ونادوه : أن اخرج إلينا ، فذمهم الله بعدم العقل ، حيث لم يعقلوا الأدب مع رسوله واحترامه ، وذلك بأن يصبروا حتى يخرج إليهم ، فإنّ ذلك أفضل عند الله وعند الناس ، والله غفور لذنوب عباده ، رحيم بالمؤمنين ، حيث اقتصر على نصحهم وتقريعهم ، ولم يُنزل العقاب بهم .
محاور مواضيع السورة :
ومن الأدب الخاص إلى الأدب العام ، تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل ، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإشاعات ، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار ، لاسيما إن كان الخبر صادراً عن شخص غير عدل ، أو مُتّهم ، فإنّ في ذلك خطراً كبيراً ، ووقوعاً في الإثم ، وكم من خبرٍ لم يتثبت من سامعه جرّ وبالاً ، وأحدث انقساماً ، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق ما يكون سبباً للندامة . ثم أبان تعالى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهركم – يعني الصحابة – فعظّموه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم ، وأشفق عليكم من أنفسكم ، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لكم ، ثم بيّن أنّ رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم ، فلو أطاعكم – يعني الصحابة – في جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرشدكم .
ثم أخبر جل جلاله بأنه يُحبّب إليكم الإيمان ، ويُزيّنه في قلوبكم ، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره ، وبما نصب على الحق من الشواهد الدالة على صحته ، وقبول القلوب والفطر له ، ويُكرّه إليكم الكفر والفسوق – وهي الذنوب الكبار – والعصيان – وهي جميع المعاصي - ، بما أودع في قلوبكم من كراهية الشر وعدم إرادة فعله ، وبما نصب على الشر من الشواهد الدالة على فساده ومضرته وعدم قبول القلوب والفطر له ، وبما يجعل الله في القلوب من الكراهة له .
ثم وصف أولئك بأنهم الذين صلحت علومهم وأعمالهم واستقاموا على الدين القويم والصراط المستقيم ، وأنّ هذا الخير الذي حصل لهم هو بفضل الله وإحسانه ، لا بحولهم وقوتهم ، وأنه تبارك وتعالى عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية ، فهو حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
ثم ينهى الله عز وجل عباده المؤمنين ، عن أن يبغي بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضاً ، وأنه إذا اقتتلت جماعة من المؤمنين ، فإنّ على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير بالإصلاح بينهم ، والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح ، فإن صلحتا فبها ونعمت ، وإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله ، من فعل الخير وترك الشر الذي من أعظمه الاقتتال ، حتى إذا كفّت عن الاقتتال فأصلحوا بينهما ، وليكن الصلح بالعدل ، لا بالظلم والحيف على أحد الخصمين ، فلا تُراعى جماعة لقرابة أو وطن أو غير ذلك من المقاصد والأغراض ، واعدلوا في كل ما تأتون وتذرون ، فإن الله عز وجل يحب العادلين في حكمهم بين الناس ، وفي جميع الولايات التي تولوها ، حتى عدل الرجل في أهله وعياله في أداء الحقوق إليهم .
ثم عقد الله بين المؤمنين عقداً ، أنه إذا وُجِد من أي شخص كان ، في مشرق الأرض ومغربها : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فإنه أخ للمؤمنين ، أخوة تُوجب أن يُحبّ له المؤمنون ما يُحبون لأنفسهم ، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم ، ومن ذلك : إذا وقع الاقتتال بينهم ، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها وتدابرها ، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم ، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم ، فليس المؤمنون إلا إخوة في الدين .
ثم أمر بالتقوى ، ورتّب على القيام بها حصول الرحمة ، وإنّ عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة الذي يحصل به خيري الدنيا والآخرة .
حذّرت السورة معاشر المؤمنين من كل قول وفعل دالٍ على تحقير الأخ المسلم ، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه ، وعسى أن يكون المسخور به خيراً من الساخر ، وهو الغالب والواقع ، فإن السخرية لا تقع إلاّ من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق ، متحلٍّ بكل خلق ذميم ، مُتخلٍّ من كل خلق كريم ، وهذا للرجال والنساء .
ولا يعب بعضكم على بعض ، ولا يُعيّر أحدكم أخاه ، ويُلقِّبه بلقب يكره أن يُقَال فيه ، واللمز بالقول ، والهمز بالفعل ، وسمى الأخ المسلم نفساً لأخيه ، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون حالهم كالجسد الواحد .
ثم ذم الله تعالى مرتكب ذلك ، وأنَّ من فعل ما نهى عنه ، وتقدم على المعصية بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبذه بالألقاب ، فهو فاسق .
ومن لم يتب عن نبز أخاه أو لمزه أو سخريته منه ، فأولئك الذي ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب .
ثم نهى الله عز وجل عباده المؤمنين عن كثير من الظن السيئ بالمؤمنين ، من تهمة وتخوّن للأهل والأقارب والناس عامة ، وعبّر بالكثير لوجوب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه ، فلا يتلفظ به ، إلا بعد التحقق ، واعلموا أنَّ بعض الظن يكون إثماً محضاً كظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة ، وكالظن الخالي من الحقيقة والقرينة ، وذلك بأهل الخير .
فليُتجنَّب كثير منه احتياطاً ، إذ لا داعية تدعوا المؤمن للمشي وراءه ، أو صرف الذهن فيه ، بل من مقتضى الإيمان ظنُ المؤمنين بأنفسهم خيراً .
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس والاشتغال به : نهى الله عز وجل عنه ، وذلك بألاّ يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا تُفتِّشوا عنها ، ودعوا المسلم عن حاله ، واستعملوا التغافل عن زلاته ، واقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذُمّوا ، والتحسّس - بالحاء المهملة – غالباً يكون في الخير ، والتجسّس – بالجيم المعجمة – غالباً يكون في الشر ، وقد يُستعمل كل منهما في الشر .
ثم نهى الله تبارك وتعالى عن الغيبة ، وذلك بألاّ يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره فيه ذلك أن يقال له في وجهه ، إنّ أحدكم لو عُرِض عليه أكل لحم أخيه ميتاً لكرهه ، فلذا ينبغي أن تكرهوا غيبته ، وخافوا عقوبة الله بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء والتجسّس عما ستر ، والاغتياب ، وغير ذلك من المناهي ؛ واعلموا أن الله يقبل توبة التائبين إليه ، ويتكّرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم .
نبه تعالى بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض : على تساويهم في البشرية ، فأخبرهم أنه خلقهم من أصل واحد ، وهما آدم وحواء ، فلا تفاخر بالآباء والأجداد ، ولا اعتداد بالحسب والنسب ، سواء بسواء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ؛ ولكن الله تعلى بثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، وفرّقهم ، وجعلهم شعوباً – أمة كبيرة – وقبائل – مما هو دونها- لأجل التعارف بينكم ، لا التفاخر بأنسابكم ، إنه لو استقل كل واحد منكم بنفسه ، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث والقيام بحقوق الأقارب .
واعلموا أنكم إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى ، فمن كان أكثركم طاعة وانكفافاً عن المعاصي ، فهو المستحق لأن يكون أكرم وأشرف وأفضل ، فدعوا التفاخر بالأنساب .
إن الله عليم بظواهركم وبواطنكم ، خبير بالأتقى والأكرم ، لا تخفى عليه خافية .
إنه لمّا كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب ، والإنكار على مساوئ أخلاقهم ، ختمها بتعريف أنّ من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي ، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان ، فهو تبارك وتعالى يُنكر على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم ، فأُدّبوا وأُعلِموا أنّ ذلك لم يصلوا إليه بعد ، فهم مسلمون ، والسبب أنكم إنما أسلمتم خوفاً أو رجاءً ، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم ، فهو ليسوا بمنافقين ، وإلا لفُضحوا وعُنِّفوا .
وإن تطيعوا الله ورسوله بفعل خير أو ترك شر ، فلا ينقصكم من أعمالكم ولو مثقال ذرة ، بل يوفيكم إياها ، أكمل ما تكون ، لا تفقدون منها صغيراً ولا كبيراً .
إن الله غفور لمن تاب إليه وأناب ، رحيم به ، حيث قبل توبته .
ثم بيّن تعالى الإيمان ، وما به يكون المؤمن مؤمناً ، إنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإيمان ، الذين جمعوا بين طاعة الله ورسوله ، ولم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوة نبيه ، وجاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم وبذل مهجهم في جهادهم ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، إنّ أولئك الجامعون بين الأمور المذكورة : هم الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان ، والدخول في عِداد أهله ، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام ولم يطمئن بالإيمان قلبه .
إنّ إثبات الإيمان ونفيه ، من باب تعليم الله بما في القلب ، وهو سوءُ أدبٍ وظنٍ بالله عز وجل ، ولهذا قال آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الأعراب : أتعلِّمون الله بدينكم ، أتخبرونه بما في ضمائركم ، إنه إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه ، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له ، لأنهم كيف يُعلِّمونه ، وهو العالم بكل شيء ، إنه تجمّل بما لا يجمل ، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به ، فإن المنة لله تعالى عليهم ، فهو سبحانه لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، والله بكل شيء عليم .
ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من جفائهم ، وهو منتهم بإسلامهم ، وتكثيرهم لسواد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فردّ الله عليهم : ألاّ { تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم }الحجرات17، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ، ولله المنة عليكم فيه ، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}الحجرات17 أي أرشدكم إليه ، وأراكم طريقه ووفقكم لقبول الدين ، وشرح صدوركم له ، إن كنتم صادقين في دعواكم ، ولكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون ، لاطلاعه على الغيوب ، إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب ، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه ، ومن الداخل فيه رهبةً من الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده .
فهو سبحانه يعلم الأمور الخفية التي تخفى على الخلق ، كالذي في لجج البحار ، وما جنّه الليل أو واراه النهار ، يعلم قطرات الأمطار ، وحساب الرمال وكنونات الصدور وخبايا الأمور
موضوعات السورة :
الأول : التقدم بين يدي الله ورسوله .
ولنعلم أن من مقتضى العقيدة : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما تضمنه كمال الانقياد لله ورسوله والتسليم المطلق لله ورسوله ، ولهذا ذم المشركين سبحانه وتعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ، لكونهم حرّموا ما لم يُحرّمه الله ، ولكنهم شرعوا ديناً لم يأذن به الله ، وبهذا تعلم أن تحكيم القوانين الوضعية والإعراض عن شريعة الله ، هو خلاف مقتضيات الشهادتين ، وبطريق الأولى هو تقدّمٌ بين يدي الله ورسوله .
وعلى هذا جرى أئمة الإسلام على ما ذكرناه كابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وابن ابراهيم وابن باز وغيرهم
وفي وجوب التحاكم إلى شرع الله {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }النساء105 وفي من لم يحكم بما أنزل الله {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }التوبة31 {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }المائدة44 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء60{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65قال الجصّاص : وفي هذه الآية دلالة على أنّ من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام ، سواء ردّه من جهة الشك فيه ، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم .
قال ابن عثيمين : ( وهذه المسألة ، أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، من المسائل الكبرى التي ابتُلي بها حكام هذا الزمان ، فعلى المرء ألاّ يتسرّع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه ، حتى يتبين له الحق ، لأن المسألة خطيرة ، نسأل الله أن يُصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم )
وبهذا يتضح لنا خطورة الحكم بغير ما أنزل الله ، وأنه أشد أنواع التقدم بين يدي الله ورسوله .
موضوعات السورة :
الثاني : الأدب مع العلماء :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ }الحجرات2 عندما نزلت الآية ، تأثر الصديق أبو بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما ، والتزما ألاّ يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ سراً أو همساً ، ومن ثَمَّ نزل قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ }الحجرات3 وهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم به الصحابة ومن بعدهم ، حتى بعد وفاته ، حيث كرهوا رفع الصوت عند قبره كما ذكر ذلك كثير من المفسّرين كابن كثير وغيره ، وهذا الأدب وعاه السلف ، حيث تجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل شيخ وعالم من العلماء ، حيث يحملون ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو سنته ، فالأدب مع العلماء أدب مع الله وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن أساء الأدب مع العلماء والدعاة فقد أساء الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك لن يقف عند أشخاصهم ، بل سيتعدى إلى ما يحملونه من علم الكتاب والسنة ، ومن هذا المنطلق ، ولما نراه من هجوم على كثير من العلماء ، من تتبّع لمثالبهم وانتقاصهم والتشهير بهم ، ولم يقتصر الأمر على الأحياء ، بل تعدى إلى الأموات من سلف هذه الأمة وقدوتها.
موضوعات السورة :
الثالث : التثبت في الأخبار :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6 وفي قراءة أخرى : ( فتثبتوا ) وهما قراءتان متواترتان ، والتثبت ينصب على السند ، أما التبين فهو حول معنى الخبر ومتنه وملابساته .
إن التثبت منهج شرعي في سماع الأخبار وتمحيصها ونقلها وإذاعتها ، بل هو أصل كبير نافع ، أمَر الله به رسوله ، كما في الآية ، وأخبر بالأضرار المترتبة على عدم التثبت {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ }الحجرات6 وأنّ من تثبت لم يندم ... إن الذي يعلم كيف يتحقق وكيف يسمع وكيف ينقل وكيف يعمل هو الحازم المصيب ، ومن كان غير ذلك فهو الأحمق الطائش الذي مآله الندامة .
وعند ورود الخبر ، فإنّ المنهج الشرعي تجاه ذلك يكون بما يلي :
1- عدالة الراوي ، وذلك بسلامته من الفسق وخوارم المروءة .
2- ضبط الراوي وإتقانه وقوة حفظه ، وإنّ كثيراً ممن يروون الأخبار ويتلقونها ، يغفلون عن هذه القضية ، أو يتساهلون بها ؛ قال مالك : ( إن هذا العلم دين ، فانظروا عمَّن تأخذونه ، لقد أدركت سبعين ممن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين ، وأشار إلى المسجد ، فما أخذتُ عنهم شيئاً ، وإنّ أحدهم لو ائتُمن على بيت مالٍ لكان أميناً ، إلاّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن )
3- حسن الفهم ودقة الاستيعاب للمراد :
وكم من ورع حافظ ، لكنه لا يفقه ما يروي وما يحفظ ، وإلاّ فالطفل يحفظ حفظاً عجيباً ، قد يعجز عنه بعض الكبار ، ومع ذلك لا يُدرك ما يحفظ ولا يفهم ما يروي .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها ، وبلغها من لم يسمعها ، فرُبّ حامل فقه لا فقه له ، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه »
4- مراعاة اتصال السند .
5- مقارنة الخبر ، وعرض متنه ومدلوله على السنن الإلهية والأحوال الجارية .
قال ابن خلدون : « وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل ، غثّاً أو سميناً ، ولم يعرضوها على أصولها ، ولا قاسوها بأشباهها ، ولا سبروها بمعيار الحكمة ... »
6- وجوب مقارنة الخبر بسيرة من نُسب إليه ابتداء ، بمعنى أنه يثبت الخبر ثبوتاً قاطعاً ، وهو لا يليق بسيرة هذا الرجل وما عُرِف عنه ، فنبحث له عن مخرج ونحمله على المحمل الحسن دون مجاملة أو مداهنة في الحق ، ولو تمحصنا بعض الأخبار التي يتعجّل بعض الناس في تصديقها وروايتها لاكتشفنا الحقيقة ، بأن هذا الخبر مكذوب ، أو قد يكون صحيحاً ولكن جاء على غير وجهه ، وقد يكون لصاحبه عذر وأنت لا تعلم ؛ قال السبكي : ( فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة ، فلا ينبغي أن يُحمَل كلامُه وألفاظُ كتاباتهِ على غير ما تُعوّد منه ومن أمثاله ، بل ينبغي التأويل الصالح وحسن الظن الواجب به وبأمثاله )
وقال ابن تيمية لما بلغه كلام عن سهل التستري ، مما فيه مخالفة شرعية : ( وهذه الحكاية ، إما كذب على سهل وهذا الذي نختار أن يكون حقاً ، أو تكون غلطاً منه فلا حول ولا قوة إلا بالله )
ونُنبّه إلى أن الأخبار تتفاوت ، فمنها ما يجب أن نُطبِّقه فيه ما نقدر عليه من شروط التوثيق ، ونسلك جميع السبل الممكنة للتبين والتثبت ، وأخرى دون ذلك حسب مدلولها وأثرها ، وتخصّص راويها أو المروية عنه ، فلكل خبرٍ رواتُه ، ولكل حدث فاعلوه ، ولكل جهد مصادرُها ومخبرُها ، ويجب أن تقدر كل حالة بقدرها ، فلا إفراط ولا تفريط .
الرابع : الأخوة :
قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }الحجرات10 هذه الآية أصل من الأصول التي تنظم علاقة المسلم بأخيه المسلم ، حتى الاقتتال بين المسلمين ، عدّه الله خروج عن قاعدة الأخوة التي قرّرها الله ، إنّ للأخوة الإيمانية مكانة سامية ودرجة عالية رفيعة ، قال صلى الله عليه وسلم : « أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله »
وعن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة : « ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه »
وهذه الآية تدل في منطوقها ومفهمومها وسياقها على عدة دلالات أهمها أمران:
1- أن الاقتتال بين المسلمين خروج عن قاعدة الأخوة التي قررها الله بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )(الحجرات: من الآية10) فيجب اتخاذ جميع الوسائل المشروعة التي تعيد هؤلاء إلى القاعدة، ولو أدى ذلك إلى قتالهم، صيانة لهذا الأصل ومحافظة عليه.
2- أن على المؤمنين الذين لم يشاركوا في هذا الخلاف، أن يبادروا بالصلح بين الفريقين المتخاصمين، وإذا لم يجد الصلح مع أحدهما، فيجب عليهم قتاله وإجباره على ذلك.
إن هذا الأمر - وهو القيام بالصلح أو القتال - ليس أمرا اختياريا أو مندوبا، بل هو لأن هذه الآية تخولهم القيام بكل وسيلة مشروعة تعيد الأمر إلى نصابه والحق إلى أهله.
وبعد تقرير هذه القاعدة، ورسم المنهج الشرعي في المحافظة عليها، تأتي آيات أخرى متلمسة أسباب حدوث الخلاف والخصومات بين المسلمين، فتبين حكم الله فيها، وتحذر المسلمين من الوقوع في حبائلها، مغلقة أبواب الشر ووسائل الفتنة وحبائل الشيطان.
فجاءت الآيات ناهية عن: السخرية، والتنابز، واللمز، وسوء الظن والتجسس، والغيبة، والتفاخر لأن هذه الآفات من أعظم ما يبث الوشائج، ويثير الضغائن، ويفجر الخصومات، وبخاصة أن منشأها أمور قلبية، وما ظهرت على الجوارح إلا بعد أن عاشت واستوطنت القلوب زمنا، والقضاء عليها قضاء على آثارها، ومجرد إيقاف الاقتتال - لو حدث - لا يكفي لإطفاء نار الفتنة، فقد تشتعل بين لحظة وأخرى، إذا كانت النفوس تنطوي على أسباب الفتنة وجذورها.
سورة مكية إلا الآية 38 فمدنية .
من المفصل .
آياتها 45 .
ترتيبها الخمسون .
نزلت بعد المرسلات .
أول سورة حزب المفصل .
بدأت السورة باسلوب قسم " ق والقرآن المجيد ".
سبب التسمية
هي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص . وق . ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى .
وفي الإتقان أنها تسمى سورة ( الباسقات ) . هكذا بلام التعريف ، ولم يعزه [ ص: 274 ] لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف ، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله : والنخل باسقات لها طلع نضيد .
سبب نزول السورة
عن ابن عباس أن اليهود أت النبي فسألت عن خلق السموات والارض فقال: خلق الله الأرض يوم الاحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق السموات يوم الاربعاء والخميس وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر ، قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد قال : ثم استوى على العرش قالوا : قد أصبت لو تممت ثم استراح ،فغضب رسول الله غضبا شديدا فنزلت (وَلَقَد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة ايام وما مسَّنا من لغوب فاصبر على ما يقولون ).
محور مواضيع السورة :
تعالج السورة أصول العقيدة الإسلامية " الوحدانية ، الرسالة ، البعث " ولكن المحور الذي تدور حوله هو موضوع " البعث والنشور " حتى ليكاد يكون هو الطابع الخاص للسورة الكريمة وقد عالجه القرآن بالبرهان الناصع والحجة الدامغة وهذه السورة رهيبة شديدة الوقع على الحس تهز القلب هزًا وترج النفس رجًا وتثير فيها روعة الإعجاب ورعشة الخوف بما فيها من الترغيب والترهيب .
ومقصود السورة تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه الإعلام بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة العنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأحسن من هذا أن يقال: مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم لبيان أنه لابد من البعث ليوم الوعيد، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة مجد القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفضيل إلى حد لا تطيقه القوى، ومن إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات الإيجاد والإعدام، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها ق لما في آياته من إثبات المجد بهذا الكتاب، والمجد هو الشرف والكرم والرفعة والعلو، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك، أولا بمخرجها فإنه من أصل اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو، وهو لا يكون إلا مع الصدق، ولإحاطتها سمي بها الجبل المحيط بالأرض، هذا بمخرجها، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقة، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا، وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل، لما انفردت به عما شاركها من النبلات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع، فإنها جامعة للفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوض النافع للافتراش والليف النافع للحبال، ودون ذلك وأعلاه من الخلال، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصهعا، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الإفناء وتناضد الثمر، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل.
ومن مقاصد السورة أيضا : إِثبات النبوّة للرّسول صلى الله عليه وسلم وبيان حُجّة التَّوحيد، والإِخبار عن إِهلاك القرون الماضية، وعلم الحقّ تعالى بضمائر الخَلْق وسرائرهم، وذكر الملائكة الموكَّلين على الخَلْق، المشرفين على أَقوالهم، وذكر بَعْث القِيامة، وذُلّ العاصين يومئذ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضًا في ذلك اليوم، وتَغَيُّظ الجحيم على أَهله، وتشرّف الجنَّة بأَهلها، والخبر عن تخليق السّماءِ والأَرض، وذكر نداءِ إِسرافيل بنفخة الصُّور، ووعظ الرّسول صلَّى الله عليه وسلم الخَلْق بالقرآن المجيد في قوله: {فَذَكِّرْ بِالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.
ابتدأت السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها كفار قريش، وتعجبوا منها غاية العجب، وهي قضية الحياة بعد الموت، والبعث بعد الفناء {ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} الآيات.
ثم لفتت السورة أنظار المشركين- المنكرين للبعث- إلى قدرة الله العظيمة، المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور، في السماء والأرض، والماء والنبت، والثمر والطلع، والنخيل والزرع، وكلها براهين قاطعة على قدرة العلي الكبير {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} الآيات.
وانتقلت السورة الكريمة للحديث عن المكذبين من الأمم السالفة، وما حل بهم من الكوارث وأنواع العذاب، تحذيرا لكفار مكة أن يحل بهم ما حل بالسابقين {كذبت قبلهم قوم نوج وأصحاب الرس وثمود} الآيات.
ثم انتقلت السورة للحديث عن سكرة الموت، ووهلة الحشر، وهول الحساب، وما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب، من أهوال وشدائد تنتهي بإلقائه في الجحيم {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} الآيات.
وختمت السورة الكريمة بالحديث عن صيحة الحق وهي الصيحة التي يخرج الناس بها من القبور، كأنهم جراد منتشر، ويساقون للحساب والجزاء، لا يخفى على الله منهم أحد، وفيه إثبات للبعث والنشور، الذي كذب به المشركون {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} الآيات.
جاء في خطبة للشيخ صالح بن عواد المغامسي
بعنوان : وقفات مع سورة " ق "
لا أحد أعلم بالله من الله تبارك وتعالى , ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى ولهذا أقسم الله جل وعلا في صدر هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق45] .
وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً مستقيماً على منهاج محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن . بالقرآن يجاهد المؤمن قال الله جل وعلا : { وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [الفرقان52] . وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}[الإسراء79] . وبالقرآن يخوف من عصى الله { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} .
جعله الله جل وعلا شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف44] والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي أتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم .
ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه فقالوا مستكبرين كما قال الله جل وعلا : {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق2] وهذه العلة في الرد هي العلة التي امتطتها الأمم من قبل فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسولهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قُدّر أن ينزل الله جل وعلا ملكا لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم كما بقي في الأول ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث تعرفه بأمانته وعفافه وطهره صلوات الله وسلامه عليه تعرف منشأه ومدخله و مخرجه فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه .
بل الأمر رحمة من الله محضة يضعها الله حيث يشاء قال جل ذكره : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف31] فقال تبارك وتعالى مجيب لهم : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف32] فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته و مشيئته أن يكون محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين ولله جل وعلا الحكمة البالغة و المشيئة النافذة {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق2] .
وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة وأعظم ما اعترضوا عليه إنكارهم للبعث والنشور وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم فقالوا : {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق3] فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق4] .
قال صلوات الله وسلامة عليه : ( إن بني آدم خلق من عجب الذنب منه خلق وفيه يركب فكل جسد بني آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب ) . أجساد الشهداء أجساد حفاظ القرآن أجساد الصالحين أجساد غيرهم من الخلق أجمعين كُلها تبلى إلا أجساد الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ) فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح وبقي ما غيرها من الأجساد عرضه للبلاء والذهاب كما أخبر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن الرسول الهدى صلوات الله وسلامة عليه .
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } ذلكم هو اللوح المحفوظ .
{ حَفِيظٌ } أي محفوظ لا يتغير ولا يتبدل , حفيظ لا يشذ عنه شيء , حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب تبارك وتعالى فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى .
ثم ذكر جل شأنه بعض من عظيم خلقه وجلائل صنائعه فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران191 ]فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق . وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه .
والله تبارك وتعالى ما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره فقير كل الفقر ذلك المخلوق إلى الله والله جل وعلا غني كل الغنى عن كل مخلوق خلق العرش وهو مستغني عن العرش خلق حملة العرش وهو جل وعلا مستغني عن حملة العرش خلق جبريل و ميكائيل و إسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغنى كل الغنى عنهم وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى .
{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة255] فحياته جل شأنه حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال وقوله جل وعلا { الْقَيُّومُ } أي قيوم السموات والأرض احتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد سواه لا إله إلا هو رب العرش العظيم .
ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش اعترفوا أول الأمر أن الله هو خالقهم ثم قالوا إن الله غير قادر على أن يبعثنا فقال الله جل وعلا : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }[ ق15 ] .
فهم متفقون على أننا قد خلقناهم أول مرة لكن اللبس الذي في قلوبهم والشكك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور قال الله جل وعلا مجيباً العاص ابن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفة ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه " ، قال الله مجيباً له : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس81] آمنا بالله الذي لا إله إلا هو قال الله : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ثم قال جل وعلا : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق16] وهذا قرب الله جل وعلا من عباده بملائكة بذلكم الرقيبين الذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال . الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر ثم يلتقيان مع صاحبهما بين يدي الله بين يدي من لا تخفى عليه خافية فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً له من علانيته . قال الله جل وعلا : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } وهذا بيان للأول أي : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }حين يتلقى المتلقيان {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرت الموت وكلما تلفظ به أمر مسطور مكتوب لا يغيب قال الله سبحانه : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق19] أي تفر فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك قال الله : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } .
وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته فقالت الصديقة رضي الله عنها ابنته عائشة لما رأت أباها يواجه سكرت الموت تردد قولاً قديماً لحاتم طي :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ***إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطاءه وقال : " يا بنيه لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }" .
إن سكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد فإذا خرجت سميت روحاً وإذا بقيت ما زالت نفساً وهي لحظات يواجهها كل أحد ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله ويشتد الموت على الأنبياء لأن الموت مصيبة والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين وإن لم يبدو ذلك ظاهر للعيان لمن كان محيطاً بالميت لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله بها عليم , ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة كما قال الله جل وعلا في فصلت : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت30 ] .
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } [ق19] أي مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق22] فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين يرى الإنسان ما كان يسمعه ويقرأه و يتلوه من كلام لله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من الغيبيات يراه ماثلاً بين عينيه قال الحق جل شأنه : {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } وهنا يقول قرينه ذلك الشيطان الذي أوكل إليه " والواو واو عطف " {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ق23] .
لا ذنب يُلقى الله جل وعلا به أعظم من الشرك وهذا لا يغفره الله أبداً أما المؤمنون فإن أول ما يُنظر فيما فعلوه ما بينهم وبين الله هو الصلاة فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو إلى ما سواها أضيع .
وأول ما ينظر إليه بين الناس والآخرين مسألة الدماء فأول ما يقضي به بين الخلائق الدماء . في الدماء أول ما يقضي به بين العباد لما يتعلق بحال بعضهم ببعض والصلاة أول ما ينظر فيه مابين العبد وبين ربه , والشرك ذنب لا يغفره الله حرم الله جل وعلا على أهله الجنة .
ثم قال الله جل وعلا : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } [ق32 ] المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد4 ] ينتابه الحزَن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة والصغر من قبل تنتابه أمور كثيرة و مطالب عظام يزدلف حيناً إلى طاعات يقع أحياناً في المعاصي يستغفر ما بين هذا وذاك يفقد أمواله يفقد أولاده يخاف يحزن إلى غير ذلك مما يشترك فيه أكثر الناس فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا ويُيمّن كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم .
قال الله جل وعلا : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} . { هَذَا } أي الذي ترونه {مَا تُوعَدُونَ } أي ما كنتم توعدونه في الدنيا {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . { أَوَّابٍ } دائم التوبة والإنابة و الاستغفار لله جل وعلا حفيظ لجوارحه أن تقع في الفواحش مما حرم الله مما ظهر منها أو بطن {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} .
ذكر الله جل وعلا النار قبلها وأنها يلقى فيها حتى تقول قطٍ قطٍ أي يكفي يكفي قال الله جل وعلا قبل ذلك : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق33 ] .
ما القول الذي يقال لهم يقول لهم العلي الأعلى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق34] والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا ولأجل ذلك يُلقى ويذهب عنهم يوم القيامة قال الله جل وعلا : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق35 ] وأعظم ما فسر به المزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى .
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
و إن من دلائل العقل والاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية فينظُر إلى صنيع الله جل وعلا فيمن عصاه ورحمته تبارك وتعالى فيمن أطاعه واتبع هداه .
ثم ذكر جل وعلا رداً على اليهود التي زعمت أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً فقال جل ذكره ممجّداً نفسه ومادحاً ذاته العلية : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق38] .
ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعدائه {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} ولابد للصبر من مطيه ألا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء قال الله جل وعلا : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق39] .
ثم قال جل شأنه بعد أن دعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر على القول بأن التسبيح هنا الصلاة وعلى القول بأنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق41] .
{ وَاسْتَمِعْ } هذا نداء لكل من يقرأ القرآن والمنادي هو إسرافيل عليه السلام والمكان القريب بيت المقدس سمي قريباً لأنه قريب من مكة وهذه السورة نزلت في مكة وليست بيت المقدس عن مكة ببعيد.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ق42] . ينادي أيتها العظام البالية أيتها الأوصال المتقطعة إن الله يدعكن لفصل القضاء فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين قال جل ذكره : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } [ق45] . سواء جهروا به أو لم يجهروا فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ فقال الله جل وعلا له : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق45] . عوداً على بدء كما أقسم الله بقرآنه العظيم ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة
5 - ذكر الزيلعي رحمه الله في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 361) أن الثعلبي روى عَن أبي بن كعب عن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ : (من قَرَأَ سُورَة ق هون الله عَلَيْهِ ثَارَاتِ الْمَوْت وَسَكَرَاته) .
ولكن هذا من جملة الحديث الموضوع المروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه في فضائل السور ، وقد اتفق العلماء على أنه حديث باطل موضوع كله .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره ، فذكر عند كل سورة منه ما يخصها ، وتبعه أبو الحسن الواحدى في ذلك "
سورة مكية .
من المفصل .
آياتها 60 .
ترتيبها الحادية والخمسون .
نزلت بعد الأحقاف.
بدأت السورة باسلوب قسم " والذاريات " ويقصد بها الرياح اسم السورة ( الذاريات ) .
سبب التسمية
سميت هذه السورة الكريمة بالذاريات لأن الله تبارك وتعالى بدأ السورة الكريمة بالقسم بالذاريات, والذاريات هي للريح التي تذرو التراب فتفتته وتفرقه, وقد أطلق الله عزوجل على الرياح اسم الذاريات, وأقسم بها نظرا لقوتها على تفتيت التراب وتفرقته ونقله من مكان الى آخر والذي نشعر به بشكل هواء.
سبب نزول السورة
عن قتادة في قوله ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ ِبمَلُومٍ ) قال : ذُكِرَ لنا أنها لما نزلت اشتد على أصحاب رسول الله و رأوا أن الوحى قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر فأنزل الله بعد ذلك ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المؤْمِنِينَ ) .
محاور ومقاصد مواضيع السورة :
هذه السورة الكريمة من السور المكية التي تقوم على تشييد دعائم الإيمان ، وتوجيه الأبصار إلى قدرة الله الواحد القهار، وبناء العقيدة الراسخة على أسس التقوى والإيمان .
و شانها شان السور المكية الأخرى وقد تناولت أصول العقيدة الاسلامية من تشييد دعائم الايمان, وتوجيه الأبصار الى قدرة الله الواحد القهار, وباء العقيدة الراسخة على أسس التقوى, وتناولها لقضايا البعث والشور والحساب والجزاء.
ابتدأت السورة الكريمة بقسم الله سبحانه وتعالى بالرياح (الذاريات) التي تذرو الغبار, وأقسم تبارك وتعالى بالسحب (الحاملات) مياه الأمطار, وأقسم عزوجل بالسفن (الجاريات) التي تسيّر المراكب والسفن في البحاروالتي تسير على سطح الماء بقدرة الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر, وأقسم المولى عزوجل بالملائكة الأطهار (المقسمات) المكلفين بتدبير شؤون الخلق, من رزق وما تتطلبه حياتهم المعيشية, نعم هكذا أقسم المولى عززوجل بالأمور الكونية الأربعة لتوضح للخلق بأنّ الحشر كائن لا محالة, وأنه لا بدّ من البعث والجزاء لتجزى كل نفس ما كسبت فان خيرا فخير, وان شرا فشر, وكل ملك من الملائكة الكرام مخصّص بأمر معين لا يحيد عنه قيد أنملة بميزان دقيق سخره الله تبارك وتعالى بحكمه وعمه وهيمنته وسيطرته, فأي خلل ولو كان ضئيلا قد يفسد الكون ولكنه بيد حكيم عليم سبحانه وتعالى مقدّر الأرزاق والأكوان والكواكب والمجرات , انه هو اللطيف الخبير, العزيز الوهاب, الحكيم المتعال, الحنان المنان ذو الجلال والاكرام, تبارك الله أحسن الخالقين.
ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن كفار مكة المكذبين بالقرىن واليوم الآخر, فبينت حالهم في الدنيا ومآلهم في الآخرة, حيث يعرضون على نار جهنم فيصلون عذابها ونكالها, وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بلفظ القتل, فقال تعالى: قتل الخراصّون * الذين هم في غمرة ساهون* يسألون أيّان يوم الدين, أي لعن الكذابون الذين قالوا أنّ للنبي صلى الله عليه وسلم شاعر وساحر ومجنون, الى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي لا تليق بمقامه السامي صلى الله عليه وسلم عند ربّ العالمين الذي أرسله رحمة للعالمين, وتكذيبهم بما جاءهم به من عند الله تعالى وهو القرآن الكريم, وبتكذيبهم باليوم الآخر والبعث بعد الموت, وما الى هناك من حقائق ذكرها القرآن الكريم أنها واقعة لا محالة, وكلمة القتل اذا أخبر الله تعالى به على أحد يعني به اللعنة عليه أو عليهم, على اعتبار أنّ من لعنه الله تعالى يكون بمنزلة المقتول الهالك.
ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن المؤمنين وما اعده الله عزوجل لهم من تكريم في جنات النعيم , من الكرمة الخالدة في الآخرة.
تحدثت السورة الكريمة عن القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح في سماءه وأرضه, في جباله ووهاده, وفي خلق الانسان في أبدع صورة وأجمل تكوين, وكلها دلائل على قدرة ربّ العالمين الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه سبحانه وتعالى عما يصفون وعما يشركون.
ثم تناولت جانبا من قصص الرسل الكرام صلوات ربي وسلامه على نبينا وعليهم أجمعين, فذكرت قصة لوط وابراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام, وكرت قصص الجبابرة الطغاة من قوم عاد وثمود وقوم نوح عليه الصلاة والسلام, وما ذكر القصص هذه في القرآن الا تسلية لفؤاد النبي صلى الله عليه يدعوه ربه الى تحمل الشدائد والصبر عليها وأنه ما حصل معه كان قد سبقه اليه أخوانه الأنبياء من قبله, وسرد كل تلك القصص للعبرة والعظة لأولى الأبصارو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (ق 37)
وختم الله عزوجل السورة الكريمة ببيان الغاية والهدف من خلق الانس والجان, لمعرفته جل وعلا وعبادته وتوحيده وافراده بالاخلاص والتوجه لوجهه الكريم بأنواع العبادات والقربات:
وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * انّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين (الذاريات 54- 56)
وتحدثت السورة عن الرياح التي تذرو الغبار، وتسير المراكب في البحار، وعن السحب التي تحمل مياه الأمطار، وعن السفن الجارية على سطح الماء بقدرة الواحد الأحد، وعن الملائكة الأطهار المكلفين بتدبير شئون الخلق، وأقسمت بهذه الأمور الأربعة على أن الحشر كائن لا محالة، وأنه لابد من البعث والجزاء {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وأن الدين لواقع} الآيات.
ثم انتقلت إلى الحديث عن كفار مكة، المكذبين بالقرآن وبالدار الآخرة، فبينت حالهم في الدنيا، ومالهم في الآخرة، حيث يعرضون على نار جهنم، فيصلون عذابها ونكالها {قتل الخراصون الذين هم في خوض ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} الآيات.
ثم تحدثت عن المؤمنين المتقين، وما أعد الله لهم من النعيم والكرامة في الآخرة، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، والإعذار والإنذار {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} الآيات.
ثم تحدثت عن دلائل القدرة والوحدانية، في هذا الكون الفسيح، في سمائه وأرضه، وجباله ووهاده، وفي خلق الإنسان في أبدع صورة وأجمل تكوين، وكلها دلائل على قدرة رب العالمين {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون} الآيات.
ثم انتقلت للحديث عن قصص الرسل الكرام، وعن موقف الأمم الطاغية من أنبيائهم، وما حل بهم من العذاب والدمار، فذكرت قصة (إبراهيم) و(لوط) وقصة (موسى) وقصة الطغاة المتجبرين من قوم عاد وثمود وقوم نوح، وفي ذكر القصص وتكراره في القرآن تسلية للرسل الكرام، وعبرة لأولى الأبصار، يعتبر بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون} الآيات.
وختمت السورة الكريمة ببيان الغاية من خلق الإنس والجن، وهي معرفة الله جل وعلا، وعبادته وتوحيده، وإفراده بالإخلاص والتوجه لوجهه الكريم، بأنواع القربات والعبادات {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} الآيات إلى نهاية السورة الكريمة.
سورة الذاريات مقصودها الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحا وبشرت به تلويحا ولاسيما آخرها من مصاب الدنيا وعذاب الآخرة، واسمها الذاريات ظاهر في ذلك بملاحظة جواب القسم فإنه مع القسم لشدة الارتباط كالآية الواحدة وإن كان خمسا، والتعبير عن الرياح بالذاريات أتم إشارة إلى ذلك، فإن تكذيبهم بالوعيد لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه وإن كانت موجودة معهم كما أن ما يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة أسبابه وإن كانت موجودة، وهي الرياح وإن كانوا لا يرونها، واريح من شأنها الذرء وهو التفريق، فإذا أراد الله جمعت فكان ماأراد، فإنها تفرق الأبخرة، فإذا أراد الله سبحانه جمعها فحملها ما أوجد فيها فأوقرها به فأجراها إجراء سهلا، فقسم منها ما أراد تارة برقا وأخرى رعدا، يصل صليل الحديد على الحديد، أو الحجر على مثله مع لطافة السحاب، كل ما يشاهد فيه من الأسباب، وآونة مطرا شديد الانصباب ومرة بردا ومرة ثلجا يرجى ويهاب نن وحينا صواعق ونيرانا لها أي التهاب، ووقتا جواهر ومرجانا بديعة الإعجاب، فتكون مرة سرورا ورضوانا، وأخرى غموما وأحزانا، وغبنا وخسرانا، على أنهم أخيل الناس في يعض ذلك، يعرفون السحاب الذي يخيل المطر والذي لا يخليه والذي مطرهع دان، والذي لم يئن له أن يمطر. إلى غير ذلك من أشياء ذكرها أهل الأدب وحملها أهل اللغة عنهم، وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله، ولذلك. والله أعلم. سن أن يقال عنمد سماع الرعد: سبحان الله سبوح قدوس، بيانا لأن المصرف الحق هو الله تعالى (رب الملائكة) أي الذي أقيموا لهذا (الروح) الذي يحمله هذا الجسم من مطر أو نار أو غيرهما
ذكر القَسَم بحقِّيّة البعث والقيامة، والإِشارة إِلى عذاب أَهل الضَّلالة، وثواب أَرباب الهداية، وحُجّة الوحدانيّة، وكرامة إِبراهيم في باب الضِّيافة، وفى إِسحاق له بالبشارة، ولقوم لوط بالهلاكة، ولفرعون وأَهله من الملامة، ولعاد وثمود وقوم نوح من الدمار والخسارة، وخَلْق السّماءِ والأَرض للنَّفع والإِفادة، وزوْجيَّة المخلوقات؛ لأَجل الدّلالة، وتكذيب المشركين لما فيه للرّسول صلى الله عليه وسلم من التسلية، وتخليق الخَلْق لأَجل العبادة، وتعجيل المنكرين بالعذاب والعقوبة في قوله: {فَلاَ تَسْتَّعْجِلُوْنَ}.
احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت ووعيدهم بعذاب يفتنهم ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيان الشبه التام بينهم وبين أولئك وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الشرك ومعذرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم.
وهذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة.. من أمر الله.. في لفظ مبهم الدلالة، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله- تعالى- على أمر: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}..
والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات.. مدلولاتها ليست متعارفة، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء: {والسماء ذات الحبك}.. يقسم بها الله تعالى. على أمر: {إنكم لفي قول مختلف}.. لا استقرار له ولا تناسق فيه، قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين..
وبافتتاحها على هذا النحو، ثم بسياقها كله، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله.. ربط القلب البشري بالسماء؛ وتعليقه بغيب الله المكنون؛ وتخليصه من أوهاق الأرض، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله، والانطلاق إليه جملة، والفرار إليه كلية، استجابة لقوله في السورة: {ففروا إلى الله}.. وتحقيقا لإرادته في عباده: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}..{إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.. وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل- أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة- بعجل سمين، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه، وبمجرد إلقاء السلام عليه، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة!
إن تخليص القلب من أوهاق الأرض، وإطلاقه من إسار الرزق، وتعليقه بالسماء، ترف أشواقه حولها، ويتطلع إلى خالقها في علاه، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق، ويعوقه عن الفرار إلى الله. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الاقتتاح، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها، وكان القسم بعده بالسماء، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا..
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة: {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. فهي صورة التطلع إلى الله، والتجرد له، والقيام في عبادته بالليل، والتوجه إليه في الأسحار. مع إرخاص المال، والتخلص من ضغطه، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه.
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون}..
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة، وتمهيده للأرض في يسر، وخلقه ما فيها من أزواج، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدونومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}..
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس، ووظيفتهما الرئيسية الأولى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}..
فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء!
لقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط، وقصة موسى، وقصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم نوح. وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة: {إنما توعدون لصادق} والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين: {فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون}.. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون}..
فالقصص في السورة- على هذا النحو- مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة الله، وتخليصه من جميع العوائق، ووصله بالسماء. بالإيمان أولا واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم.
فضل السورة
عَن عَلّي بن أبي طَالب أَنه قال عَلَى الْمِنْبَر سلوني قبل أَلا تَسْأَلُونِي وَلنْ تسألوا بعدِي مثلي فَقَامَ ابْن الْكواء فَقال مَا {الذاريات} قال الرِّيَاح قال: {فَالْحَامِلَات وقرا} قال السَّحَاب قال: {فَالْجَارِيَات يسرا} قال الْفلك قال: {فَالْمُقَسِّمَات أمرا} قال الْمَلَائِكَة. وَكَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
قلت رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حديث أبي الطُّفَيْل قال رَأَيْت أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلّي بن أبي طَالب قَامَ عَلَى الْمِنْبَر فَقال سلوني قبل أَلا تَسْأَلُونِي وَلنْ تسألوا بعدِي مثلي إِلَى آخِره سَوَاء وَزَاد قال فَمن {الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار} قال مُنَافِقُو قُرَيْش. انْتَهَى قال حديث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ انتهى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرِيّ وَعبد الرَّزَّاق فِي تفسريهما.
وَرَوَى الْبَزَّار فِي مُسْنده نَحوه مَرْفُوعا فَقال حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن هَانِئ ثَنَا سعيد بن سَلام الْعَطَّار ثَنَا أَبُو بكر بن أبي سُبْرَة عَن يَحْيَى بن سعيد عَن سعيد ابْن الْمسيب قال جَاءَ صبيغ بن عَسَلِي التَّمِيمِي إِلَى عمر بن الْخطاب فَقال يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخْبرنِي عَن {الذاريات ذَروا} قال هِيَ الرِّيَاح وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقوله مَا قلته قال فَأَخْبرنِي عَن {الْحَامِلَات وقرا} قال هِيَ السَّحَاب وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقوله مَا قلته قال فَأَخْبرنِي عَن {الْجَارِيَات يسرا} قال هِيَ السفن وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقوله مَا قلته قال ثمَّ أَمر بِهِ عمر فَضرب مائَة وَجعله فِي بَيت فَلَمَّا برأَ دَعَا بِهِ فَضَربهُ مائَة أُخْرَى وَحمله عَلَى قتب وَكتب إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَن امْنَعْ النَّاس عَن مُجَالَسَته فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى أَتَى صبيغ أَبَا مُوسَى فَحلف لَهُ بِالْإِيمَان الْمُغَلَّظَة أَنه مَا يجد فِي نَفسه مِمَّا كَانَ يجد شَيْئا فَكتب فِي ذَلِك إِلَى عمر فَكتب عمر مَا إخَاله إِلَّا قد صدق فَخَل بَينه وَبَين النَّاس انْتَهَى.
ثمَّ قال هَذَا حديث لَا نعلمهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِلَّا من هَذَا الْوَجْه وَإِنَّمَا ذكرته لأبين علته فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَتَى من جِهَة أبن أبي سُبْرَة فِيمَا أَحسب وَابْن أبي سبره لين الحديث وَسَعِيد بن سَلام لم يكن من أَصْحَاب الحديث انتهى.
وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حديث عبد الله بن مُوسَى عَن ابْن أبي سُبْرَة بِهِ سندا ومتنا.
وَأما حديث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ ثني مُحَمَّد بن سعد ثني أبي ثني عمي ثني أبي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي قوله تعالى: {والذاريات} قال هِيَ الرِّيَاح {فَالْحَامِلَات وقرا} قال السَّحَاب {فَالْجَارِيَات} قال هِيَ السفن فَالْمُقَسِّمَات أمرا قال هِيَ الْمَلَائِكَة انتهى.
الحديث الأول:
عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي ترده الْأكلَة وَالْأكْلَتَان وَالتَّمْرَة وَالتَّمْرَتَانِ» قالوا فَمَا هُوَ قال «الَّذِي لَا يجد وَلَا يتَصَدَّق عَلَيْهِ».
قلت رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه فِي الزَّكَاة من حديث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قال قال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي يطوف عَلَى النَّاس فَتَردهُ اللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَة وَالتَّمْرَتَانِ» قالوا فَمَا الْمِسْكِين يَا رَسُول الله قال «الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه وَلَا يفْطن لَهُ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ» انتهى.
الحديث الثاني:
عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «من قرأ سُورَة الذاريات أعطَاهُ الله عشر حَسَنَات بِعَدَد كل ريح هبت وَجَرت فِي الدُّنْيَا».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره من حديث نوح بن أبي مَرْيَم عَن عَلّي بن زيد عَن زر بن حُبَيْش عَن أبي بن كَعْب قال قال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «من قرأ سُورَة الذاريات» إِلَى آخِره.
وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بسنديه الْمَذْكُورين فِي آل عمرَان.
وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدّم قي يُونُس.