قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "يخبر - تعالى - بأن الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده - التي لا يقدَّم عليها شيءٌ - لوسَّع الدُّنيا على الذين كَفَرُوا توسيعًا عظيمًا، ولجعل ﴿ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ ﴾ [الزخرف: 33]؛ أي: دَرَجًا من فضة، ﴿ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [الزخرف: 33] على سطوحهم، ﴿ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴾ [الزخرف: 34] من فضة، ولجعل لهم ﴿ زُخْرُفًا ﴾ [الزخرف: 35]؛ أي: ولَزَخْرَفَ لهم دنياهم بأنواع الزخارف، لكنْ مَنَعَهُ من ذلك رحمتُه بعباده؛ خوفًا عليهم مِنَ التَّسارُعِ في الكفر وكثرة المعاصي؛ بسبب حبِّ الدُّنيا.
ففي هذا دليلٌ على أنه يُمْنَع العباد بعضَ أمور الدُّنيا مَنْعًا عامًّا أو خاصًّا لمصالحهم، وأنَّ الدنيا لا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضةٍ، وأنَّ كلَّ هذه المذكورات من متاع الحياة الدنيا منغَّصةٌ مكدَّرةٌ فانيةٌ، وأن الآخِرة عند الله خيرٌ للمتَّقين لربِّهم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأنَّ نعيمَها تامٌّ كاملٌ من كلِّ وجهٍ، وفي الجنَّة ما تشتهيه الأنْفُس وتلَذُّ الأَعْيُن، وهم فيها خالدون، فما أَشَدَّ الفَرْق بين الدارَيْن"[1]. اهـ.
وفي هذه الآيات الكريمات فوائد كثيرة؛ منها:
• أنَّ ما يُعْطيه اللهُ الكفَّارَ من نِعَم الدنيا، إنما ذلك لهَوَان الدنيا عنده، وحقارتها، وابتلاءٌ لهم وفتنةٌ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ [الأحقاف: 20]، وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً، يُعطَى بها في الدُّنيا، ويُجزَى بها في الآخِرة، وأما الكافر، فيُطْعَمُ بحسنات ما عَمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخِرة، لم تكن له حسنةٌ يُجزَى بها))[2].
ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - عندما صعِد إلى مَشْرَبَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما آلى - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، فرآه على رمال حصيرٍ قد أثَّر بجنبه، فابتدرَتْ عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنتَ صفوة اللهِ مِن خَلْقِه!! وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس، وقال: ((أوَفي شكٍّ أنتَ، يا ابن الخطاب؟!))، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيِّباتهم في حياتهم الدنيا))، وفي روايةٍ: ((أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخِرة؟!))[3].
• ومنها: أن كثرة النِّعم والخيرات التي يعطيها الله لعبده ليست دليلًا على محبَّته؛ قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، وعن عُقْبَة بْنِ عامر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ من الدنيا ما يحبُّ، وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنَّما ذلك منه استدراجٌ))[4].
ومنها: أن فيها الترغيب في الآخِرة، والزُّهد في الدُّنيا؛ قال – سبحانه -: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].
ومنها: بيانُ حقارة الدنيا وهوانِها على الله؛ فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو كانت الدُّنيا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضةٍ، ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ))[5].
وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسوق والناس عن جانبَيْه، فمرَّ بجديٍ أَسَكِّ – أي: صغير الأُذُن – فقال: ((أيُّكم يحبُّ أنَّ له هذا بدرهمٍ))، فقالوا: ما نُحبُّ أنه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟! قال: ((أتحبُّون أنَّه لكم؟))، قالوا: والله، لو كان حيًّا، لكان عيبًا فيه؛ لأنه أَسَكّ؛ فكيف وهو ميِّتٌ؟! فقال: ((والله، لَلدُّنيا أَهْوَنُ على الله من هذا عليكم))[6].