الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده
ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إقراراً بربوبيته
وإرغامـاً لمن جحد به وكفر
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله
سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علمنا
وأرِنا الحــق حقاً ، وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً
وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مظاهر و دلائل تكريم الإنسان :
لا يستطيع الإنسان أن يسلخ نفسه عما يجري في العالم
عما يجري لانتهاك لحقوق الإنسان ، عما يجري من ظلم
ومن جور ، والإسلام أيها الإخوة دين الله عز وجل .
أبرز شيء في هذا الدين العظيم أنه إنساني الطابع
وأن الإنسان في هذا الدين مكرم أعظم تكريم
فالإنسان يا أيها الإخوة الكرام ؛ في نظر الإسلام مخلوق متميز
مكرم ميزه الله وكرمه ، وفضله على كثير من خلقه .
من مظاهر هذا التكريم :
- استخلافه في الأرض .
قال تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة البقرة ]
من مظاهر تكريم هذا الإنسان أن الله جل جلاله استخلفه
في الأرض , وخلق آدم على صورته ، منحه حرية الاختيار
منحه الفردية ، فالإنسان فرد لا مثيل له ، سمح له أن يشرع
من نصوص ظنية الدلالة ، سمح له أن يبدع من نظام خلق الكون
الإنسان هو المخلوق الأول .
من مظاهر هذا التكريم :
- أن الله خلقه في أحسن تقويم ، وصوره فأحسن تصويره
وكان عليه الصلاة والسلام إذا سجد لله عز وجل يدعو ويقول :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( سجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ
تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ))
[ أخرجه النسائي ]
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾
[ سورة التين ]
انظر إلى عينيك ، انظر إلى حواسك الخمس ، انظر إلى أعضائك
انظر إلى كمال خلقك ، هذا من تكريم الله لك .
- أن الله جل جلاله سخرللأنسان ما في السماوات وما في الأرض
تسخير تعريف ، وتسخير تكريم
هذا الكون مسخر لك من أجل أن تعرف الله من خلاله
وهذا الكون مسخر لك من أجل أن تنتفع به
الإنسان استطاع لا بما عنده من قدرات
ولكن بتسخير الله لما في الأرض والسماوات للإنسان
فاستطاع أن يصل إلى أعماق الأرض ، وأن يستخرج المعادن
وأن يصل إلى الفضاء ، وأن ينتفع بكل ما في الأرض
لأن الله سخر هذا للإنسان ، بل إن أصنافاً عديدةً من الحيوان
مذلل للإنسان
أنواع منوعة من الكائنات مسخرة للإنسان
تسخير تعريف وتسخير تكريم
رد فعل التعريف أن تؤمن ، ورد فعل التكريم أن تشكر
فإذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك
قال تعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً
عَلِيماً ﴾
[ سورة النساء ]
من معاني هذا التسخير :
- أن الطاقات الكونية كلها مهيأة ، ومبذولة للإنسان
لا يستعصي منها شيء عليه .
وأن الإنسان هو واسطة العقد في هذا العالم
وإن صغر حجمه بالنسبة للمكان ، وإن قصر عمره
بالنسبة إلى الزمان ، فلا يجوز لهذا الإنسان أن يؤله شيئاً
في هذا العالم , أو أن يتعبد لشيء رغباً أو رهباً
والذين عبدوا بعض ما في الكون قلبوا الحقائق
فحولوا الإنسان من سيد سخر الله له الكون إلى عبد ذليل
يسجد لنجم أو لشجرةٍ ، أو لبقرةٍ ، أو لحجر ، أو لغير ذلك
من دلائل هذا التكريم كذلك
- أن الله جل جلاله فتح للإنسان باب التقرب إليه .
ألف طريق وطريق إلى الله سالك ، الله جل جلاله من علينا
بنعم لا تعد ولا تحصى وتودد إلينا بعلاقات ودية بين عباده
بين الزوج وزوجته ، بين الأخ وأخيه ، بين الأب وأولاده
وتودد لنا بأن جعل آلاف الطرق إليه سالكةً كي نتودد إليه .
قال تعالى :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
[ سورة البقرة ]
ليس هذا وقفاً على الطائعين
بل إن الطرق سالكةٌ حتى أمام المذنبين
قال عز وجل :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
[ سورة الزمر ]
بل إن الإسلام اعترف بكيان الإنسان كله جسماً ، ونفساً , وعقلاً
وقلباً ووجداناً ، وإرادةً ، لهذا أمره بالسعي في الأرض والمشي
في مناكبها ، والأكل من طيباتها والاستمتاع بزينة الله
التي أخرج لعباده ، وحثه على النظافة ، والتجمل ، والاعتدال
ونهاه عن المسكرات ، وعن كل ما يضره وفاءً بحق جسده
هذا الجسد له حق ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ عَلَيْكَ حَقًّا
وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ))
[ أخرجه البخاري و مسلم ]
المسلم قوي في بنيته لأن العناية بالجسم جزء من دينه
إن جسمه ملك المسلمين ، ملك أسرته ، فالعناية بالجسد
جزء من الدين .
لأنه جسد أمره أن يسعى لكسب رزقه ، ولينفق على أهل بيته
وأولاده ، وليعيش حياةً كريمةً تليق بإنسانيته
ولأنه نفس لا تطمئن إلا بذكر الله .
قال تعالى :﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد ]
أمره بعبادة الله وحده ، والتقرب إليه بأنواع الطاعات
من صلاة وصيام ، وصدقة وزكاة ، وحج ، وعمرة ، وذكر
ودعاء ، وإنابة , وتوكل ، وخوف ، ورجاء ، وبر ، وإحسان
وغير ذلك من أنواع العبادات البدنية ، القولية ، والمالية
وفاءً بحق نفسه ، النفس لها حاجات ، في النفس فراغ
لا يملأه المال ، ولا يملأه الجاه ، ولا تملأه ملذات الأرض
ولا تملأه أموال قارون ، لا يملأ هذا الفراغ إلا الاتصال
بالله عز وجل فوفاءً بحق نفسه أمره أن يعبده .
وللإنسان عقل ، ولهذا العقل غذاء ، ألا وهو العلم
لذلك أمره بالنظر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض
وما خلق الله من شيء ، ومن سنن الله في المجتمعات
ومصير الأمم ، كما أمره بطلب العلم والتماس الحكمة
وأنكر عليه الجمود وتقليد الآباء والكبراء
كل ذلك وفاءً بحق عقله
أنت جسم يحتاج إلى طعام وشراب أمرك أن تعمل
لتكسب قوت يومك ، وأن تكون يدك هي العليا
وأنت نفس تفتقر إلى الله عز وجل أمرك أن تتصل به
من خلال العبادات الشعائرية والتعاملية
وأنت عقل أمرك أن تطلب العلم لأن مرتبة العلم مرتبة عالية
في الإسلام ، قال تعالى :
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
[ سورة الزمر ]
﴿ مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
[ سورة المجادلة ]
ولأن حاجة الإنسان إلى الجمال حاجة فطرية
فلذلك لفته إلى جمال الكون بأرضه وسمائه ، ونباته ، وحيوانه
وما زانه الله به من الحسن ، والبهجة ، ليشبع حاسته الجمالية
وفق منهج الله عز وجل في نفسه
وليشعره في أعماقه بعظمة الله عز وجل الذي أحسن كل شيء
خلقه وذلك رعايةً لجانبه العاطفي والوجداني .
أيها الإخوة الكرام ؛
عظمة الإسلام أنه واقعي ، أنه دين الفطرة اعترف بالإنسان
جسماً ونفساً ، وعقلاً ، وعاطفةً .
الإسلام وما حققه من مساواة :
أيها الإخوة الكرام ؛ الإسلام إنساني النزعة
إنساني وليس إقليمي ، إنساني ، وليس عنصريًا
الإسلام لا يفرق بين إنسان وإنسان
كلكم من آدم وآدم من تراب .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))
[ أخرجه أبو يعلى والبزار في مسنده ]
فذلك قبل أن تسمع الدنيا بحقوق الإنسان
قبل أن تسمع الدنيا بهذه الحقوق التي تنتهك كل يوم
حقوق مكتوبة على ورق لا يرعاها أحد .
عن الأمل العظيم في رحمة الله تعالى فيقول:
“والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه
من الفضل والإحسان، والعفو والصفح والغفران
ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار.
ويتطلع لرحمته إذ ذاك، جميع الخلق لما يشاهدونه
فيختص المؤمنون به وبرسله، بالرحمة.
فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟
وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟
قلنا: لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه، ومن سعة جوده
الذي عم جميع البرايا، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا
ومن النعم المتواترة في هذه الدار
وخصوصًا في يوم القيامة، فإن قوله:
{ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } ، { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ }
مع قوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }
ومع قوله تعالى:
(إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون
حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها، خشية أن تطأه
من الرحمة المودعة في قلبها، فإن كان يوم القيامة
ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد)
مع قوله صلى الله عليه وسلم:
(لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)