بسم الله الرحمن الرحيم
أحداث تموج بالعالم، نظريات تسقط وأخرى تولد، وهذا يقيم التاريخ وذاك يفلسف الأحداث، تجد الحكمة أحيانا والتهور أحايين أخرى.. ومن بين هذا الحراك الضخم تبرز تحليلات راقية وأفكار جوهرية آثرت أن أجمعها في عقد فريد، حباته أشبه بمحطات نحتاج أن نقف عندها كثيرا لنستقي منها العبرة ويتولد عندها الهدف .. إنه العالم الغريب الذي أتعب البشر وأتعبوه معهم، فهل من معتبر، وهل من مستفيد.
*غزوة الحديبية
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد تعلموا دروس العسكرية وفن إدارة المعارك في بدر وأحد والخندق، فإنهم تلقوا هنا درسا في السياسة والإعلام، والسياسة هي النظر السديد، ومعرفة الواقع، وطبائع الناس، واستشفاف المستقبل، والتي تقوم على القرار المناسب في الوقت المناسب، وعلى تحمل المكاره الآنية في سبيل ما يتوقع من المكاسب الآجلة، والتي تقوم على مواقف مستنبطة من الشرع وضمن ضوابطه، ومبنية على علم وتجربة، وليست السياسة التي يقرنها الناس بالكذب والدجل، والتصريحات الطنانة أو المتناقضة المبنية على الجهل والغوغائية والهذر والفوضى، يقول الإمام الطرطوشي: «ونحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر فإنا نرغب في الحيلة ونوصي بها، والاتساع في الحيلة مما تواصى به العقلاء قديما وحديثا، وأضعف الحيلة أنفع من كثير الشدة»
السياسة الحقيقية هي التي تبتعد عن البطولات الفارغة التي لا تعمل شيئا بحجة أنه مستحيل.
وهكذا نرى الزعماء الذين لا ضمير لهم يعرفون كيف تكون المزايدة السياسية لإغراء العامة، كما تبتعد السياسة عن مرض «السهولة» الذي وقع فيه المسلمون في معالجة قضية كبيرة مثل قضية فلسطين، فبدلا من أن يأخذوا للأمر أهبته، ويعلموا خطورة اليهود، ومن وراء اليهود، راحوا وبسذاجة سياسية يطلقون الشعارات التي توحي أن الأمر سهل فهؤلاء اليهود سنلقيهم في البحر !! وهذه دويلة لا قيمة لها.. وهؤلاء أصحاب النوايا الحسنة، أما المتآمرون فهم كثر.
وقفات تربوية في فقه السيرة
د. محمد العبدة، دار الصفوة، القاهرة ص 157-158
*النقد الذاتي
في غزوة أحد خاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين بخلجات نفوسهم، وصارحهم بما كان فيها من نوازع القوة والضعف، والإقدام والأحجام، فهي صورة إنسانية مؤمنة، قال تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}[آل عمران:122]، وقال تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}[آل عمران:152]، {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}[آل عمران:153].
فهل يمارس المسلمون بين كل فينة وأخرى هذا النقد لأنفسهم، ولماذا لم يتم النصر، ولماذا ينتقض البناء، ولماذا هذا الضعف، والبعد عن التمكين، وعن القيادة.. لابد من هذه الأسئلة، والبحث عن جواب لها، ولابد من المصارحة وعدم الغمغمة، ومحاولة تسويغ وتعليق الأخطاء على الغير.
إن في المسلمين اليوم أمراضا كثيرة، ولو أنهم صارحوا أنفسهم وما هي هذه الأمراض فلربما تحسنت أحوالهم قليلا، وإن من أعظم هذه الأمراض الأثرة الفردية، والحزبية، وكثرة التفرق، فلم لا يصيبهم ما أصاب غيرهم، ولم لا يحصون ذنوبهم وأخطاءهم، ولا ينتظرون أن يأتيهم التمكين على طبق من فضة.