|
|||||||||||||
آخر 20 مشاركات |
|
|||||||
#1
|
||||||||||||
|
||||||||||||
حين يبكي الياسمين .....قصة دمشقية
ربيع عرابي
ذكريات ياسمينة دمشقية … استشهدت في القيمرية … و أودعت في تراب الشام … بعضاً من زهراتها البيضاء … شقَّت أصواتٌ كالرعد القاصف سكونَ السحر، فأنهت هدوءَ الليل، ونشرت الخوف والترقب في المكان، فمنذُ شهور عديدة راحت هذه الأصوات تعكر صَفوَ الحي وهدوءَه الراتب، تارة في ظلمة الليل، وأخرى في وضح النهار. سمعت الياسمينةُ البلدية البيضاء أهلَ البيت يتهامسون فيما بينهم مراراً، يقولون إنها طلقات رصاص قاتل، تنطلق من مدفع رشاش، نُصِبَ على سطح مبنى قريب، وراح قناصه يترصدُ العابرين والمارين، ويصوبُ قذائفه المميتة على من لا يعجبه منهم، فيرديه جثة هامدة، وتصعد روحه شاكية ظُلامتها إلى رب السماء. لم تفهم الياسمينة معنى هذا الكلام ومغزاه، فهي رسول الحب والفرح والسلام، بيضاءُ رقيقةٌ ناعمة، لسانُها الشكر، وأريجُها العطر. إيـــــه … يالها من أيام خلت … تنهدت الياسمينة الخائفة محدثةً نفسها، مستذكرة الأيام الهانئة، والأماسيَ الهادئة، حين كانت تقضي لياليها تغازلُ القمر والنجوم، فلا تصحو من غفوتِها إلا على صوت المؤذن يبتهل إلى مولاه قُبَيلَ صلاة الفجر1، مداعباً آذان الغافلين، مذكراً النِّيام برب العالمين، فيُحيي نفوسَهم بعد مَوات. كانت أغصانُها العالية تُعنقُ نحو (مئذنة العروس) القريبة، تتخيلُ (الدُّومَرِي) وهو يصعد درجاتها، في ليالي الأعياد، ليُسرج الفوانيس الكبيرة عند الغروب، فتبدو المئذنة كالعروس ليلة زفافها. وكانت تترقبُ صوت المؤذن الندي، يعلن انتهاء الفجر الكاذب وبزوغ الفجر الصادق، فتتثاءب قليلا، مودعة نجومَ السماء، تُبَللُ ريقَها، وتغسلُ زهراتها بقطرات الندى المتجمعة على أوراقها الناعمة، فتطرد عنها وسنات النوم، وأضغاثَ الأحلام، ويُفارقُ (الحَجِّي) فراشَه موقظا (الحَجَّة)، معلنا عودة النشاط للبيت، ليبدأ يوم جديد. سنونٌ2 مضت، وعقودٌ مرت، دون أن تُغَيرَ من رتابة الحياة، نظامٌ دقيقٌ سار عليه الحجي وأبوه وجَدُّهُ وجَدُّ جَدِّهِ من قبل، واستمتعت به الياسمينة كل يوم، ولا عجب في ذلك، فهي (بنت البيت)، بل قيل أن أجدادها كانوا هنا قبل أن يكون البيت، بل يخيلُ إليها أن بعض أغصانها نثر عطره وزهوره البيضاء على قبر هابيل الشهيد، بعد أن قتله قابيل ودفنه أمام ناظريها في سفح قاسيون. خفَّفت الياسمينة شيئا من غَلوائها، وقد خشيت أن يكون بعض صديقاتها وجيرانها قد استرق السمع وتسلل إلى خواطرها وهمساتها، فتُصبح مثار التَّنَدُّرِ والسخرية بين الجميع، وهي تريد أن تبقى موفورةَ الكرامة، عزيزةَ النفس، مرفوعةَ الرأس على الدوام. تلفتت الياسمينة يمنة ويسرة، وراحت تُنَقِّلُ نظراتها بين الشُجَيرات والزهور والورود المتناثرة في زوايا (أرض الدِّيار)، وعلى عتباته ودرجاته، وفي أحواضه وأصُصِه، أمام النوافذ وفي زوايا الأبواب وعلى جوانب (البَحْرة) الكبيرة. هناك يستلقي (الهوا) قرب (الخُبَّيزة) و (السجادة)، وبجانبه يتمايل (عطر الليل) و (الرَّيحان)، وعند الدرج تنام (الخَتمِية) و (المَلِّيسَة)، بينما تنتصب في الركن الأيمن شجرة (الأكيدُنيا)، غير بعيد عن شجرة (الكبَّاد)، تفصل بينهما (النَّارنجَة) العتيقة، وتقاسمت داليتا العنب البلدي والحلواني سماء (الجُنينَة) الصغيرة. وقرب (اللِّيوَان)، فرشت (المجنونة) ألوانَها الحمراء والبرتقالية والبنفسجية، متباهية بجمالها على (الشُكرية)، بينما راحت (المدَّادة) تتسلق بخفة ورشاقة الجدرانَ والأغصانَ كلص خبير متمرس، ومدت لسانها مكايدة (الليلك) و (النرجس) و (البنفسج) الذي تسلب رائحته الألباب. وتوزعت العديد من الزهور العجيبة الغريبة في الأصص هنا وهناك، متحاشية نظرات الفضول، وغمزات الهزء والسخرية من أسمائها المضحكة، فهذه المغرورة والـ (شَايفِه حَالهَا) يدعونها (آه يا أنا)، وتلك البخيلة الشحيحة ينادونها (ليلة القدر)، لأنها لا تتفتح إلا مرة واحدة في السنة، وهناك (الغنَّاجة) أو (المستحية) التي تتصنع الحياء والخجل، فتُغلق أوراقَها إذا لامستها يد غريب، ثم تفتحها بعد قليل، وقربها (تم السمكة) الشريرة و (لسان الحَمَاية) الطويل، أسماء تدعو للشفقة وتثير الضحك. على كل حال، فليس للياسمينة البيضاء مشكلة مع كل هؤلاء، ولا يعنيها غنجهم ودلالهم وألوانهم وعطورهم، فهي ياسمينةٌ بيضاء … طيبةٌ نقية، واثقةٌ من حسنها ورِقَّتِها ونعومتها، متأكدةٌ من عشق الجميع لها، وهي بعد ذلك ليست مَهِيضَةَ الجناح (مقطوعة من شجرة)، فقريبتها (الياسمينة العَرَاتلية) تعيش قربها، وهما تشرفان معا على أرض الديار، وتتقاسمان النفوذ فيه، فهو مملكتهم وبيتهم وأرضهم. مشكلة الياسمينة الحقيقية والتي كانت تحاول جاهدة إخفاءَها عن العيون، هي غيرتها الشديدة من (الفُلِّ) الأبيض، و (القُرُنفُل) الفَتَّان، و (الزَّنبق) البلدي، وأشدُّ من ذلك كله على نفسها، تلك التي يدعونها (الوردة الجُورية الشامية)، التي ملأت الدنيا شهرتها، فتُوِّجَت ملكة جمال الورود والأزهار، رغم نزعتها السادية وحبها للدماء، فكم أدمت من أكف، وكم جرحت أشواكها من أياد ناعمة. ما علينا … فالحياة لا تصفو لأحد … وعلى الياسمينة أن تتحمل المنافسة مع ضرائرها، وأن تحافظ على نقائها وبياضها وصفائها مهما كانت الأحوال، فهي ياسمينة أصيلة و (بنتُ بلد)، أجدادُها وأجداد أجدادها، طَعموا من هذا التراب، وشربوا من مائه، وعَطَّروا هواءه، أما بقية الورود والزهور فكلُّها (جَلَبْ)، غريبة عن أرض الديار، أشفق عليها صاحب البيت فأذن لها بالإقامة فيه، وغمرها بفضله وعنايته … لكن المشكلة أنَّ الوردة الجورية والفلة البيضاء، مثلها، (بنات بلد) أيضاً … أصيلتان في المكان … على أي حال … كُتب علينا أن نتجاور في أرض الديار، نُزينُ أحواضَهُ وجدرانَهُ المبنيةَ بـ (الحجر المزّاوي) الجميل، ونظللُ سماءَه بأوراق الدوالي العريضة، ونعطرُ هواءَه بعبقنا وأريجنا الممزوج برذاذ النافورة الناعم، يتدفق وسط البحرة بنقوشها البديعة. ونمضي نهارنا نتسلى برؤية الغرف الموزعة حول أرض الديار نراقب الخارج منها والداخل إليها، فذاك (مُرَبَّعُ) الحجي و الحجة، وإلى يساره (مَخْدَعُ) ابنهما أبو وليد وزوجته أم وليد، وبجانبه مخدع حفيد الحجي وليد وأخته الصغيرة التي ينادونها (العروسة)، وعلى يمين ذلك كله مربع الأكل. أما أنا – تابعت الياسمينة – فكَونِي عريقةَ الأصل، ذات حسبٍ ونسب، فأنا أطلُّ على (القاعة) أتملى زخارف جدرانها وسقفها التي تبهر الأبصار، وأراقب (الفُستُقية) الصغيرة التي تتوسطها، فتزيدها بهاءً ورونقاً، وأُنَقِّلُ النظر بين القاعة و الليوان، مجلسِ السُمَّارِ، ومَوئِلِ السَّهَراتِ العِذَاب. كانت فرحتي لا توصفُ حين تأمر الحجة بتنظيف البيت، فينقلب رأساً على عَقِب، وتعلو أصوات (القباقيب) الخشبية تَرِنُّ في أنحائه، فَتُمسَحُ الدفوف الخشبية المرصوفة على الدكَّات، وتُنَظفُ الحُصُر، ثم تُوضعُ فوقَها الطنافسُ والبُسُط، بعد أن تنالَ حظَّها من الشمس والهواء، وتُرتبُ (الطَواطِي) و الدواوينُ على الجوانب، بمفارشها (الدَّامسكو) الموشاة، فما إن ينتهي النهار، ويقتربُ موعد عودة الحجي إلى البيت، حتى يعودَ كل شيء إلى مكانه، ويسود الهدوء والنظام من جديد، وقد غسل البيت أدرانه، ونظف أركانه. كان الحجي وَقوراً مَهيباً حازماً، قد زين الشيبُ رأسَه، وأعفى شاربَه ولحيتَه، يُخيَّلُ لمن يراه أنه قاسي القلب، شديدُ البطش، لكنه في حقيقة الأمر، عطوفٌ مغرمٌ بنا، (يده خضراء)، لطالما غمرنا بعنايته ورعايته، وأحبنا كأولاده وأحفاده، وأنَّبَ ابنه الوحيد أبا وليد لتقصيره في سقايتنا من (ماء الفيجة) العذب البارد – فنحن مُدلَّلاتٌ لا نشرب غيره -، معتبراً أننا أمانة في رقبته، سيسأل عنها يوم القيامة : “فهي روحٌ بين أيدينا، مرهفةُ الإحساس، رقيقةُ المشاعر، تحبُّ من أحبها، وتعشقُ من عشقها، فإذا أُهمِلَت أو عُومِلَت بقسوة (حَرَدَت) وفارقت الحياة، وراحت تشكونا إلى خالقها، أن ضيعنا الأمانة، وفرَّطنا في النِّعمة”. كان الحجي شديدَ الخوف والقلق علينا، وحين قرر أن يحج بصحبة الحجة، تركنا ووحيده أبا وليد أمانة عند ابن عمه، ورجاه أن يهتم بنا في غيبته، واستحلفه أن يُحسنَ صُحبتنا حتى عودته، ونَقَده من المال ما يكفي لرعايتنا، ولم تشفع عنده دموع ابنه ترجوه الإذن له بالحج، فالحج في رأي الحجي عبادةٌ عظمى، لا تَصِحُّ ولا تُقبلُ إلا بعد أن يُكمِلَ الفتى نصف دينه، ويُعفَّ نفسَه بالزواج. ويوم السفر، بعد أن حزم أمتعته وأكمل استعداده للرحيل، مرَّ بنا، وَدَّعَنا، واقترب مني فقبل أحد زهراتي، وقطف غُصَينا صغيراً من غصوني الوليدة ليُذكره بي، وحين لمحته الحجة ابتسمت ولم تَغَر مني، فهي امرأة عاقلة (حجة!!!)، وأنا مجرد ياسمينة بلدية بيضاء، ناعمة رقيقة، في خدمتها وخدمة زوجها. وعاد الحجي من الحجاز بعد شهور، فقامت الدنيا وقعدت، فنُظِّفَ الحي وزُيِّنَت الحارة، واجتمع الأهل والجيران والأصحاب لإستقبال ضيوف الرحمن، فما إن وَطِئت أقدامُهم أرضَ الحيِّ حتى أحاط بهم الشباب من كل جانب فرحين هاتفين مهللين : يتبع
pdk df;d hgdhsldk >>>>>rwm ]lardm
المصدر : || منتديات شهرزاد الادبية
إسم الموضوع : || حين يبكي الياسمين .....قصة دمشقية
القسم : || التراث والاثار
كاتب الموضوع : || زهراء دياب
|
10-31-2020 | #2 | ||||||||||||
|
أول ما بدينا .. على النبي صلينا .. يا صلاتك يا محمد .. وبالصلاة صلوا عليه .. وا علينا وا عليه .. وعلى من زار قبره .. حجيت الحجاج لاجله .. وعلى من حج إليه .. وادللي يا عيني .. على هالحج الزيني .. وادللي يا غاليه .. لاطلع لك العالية.. مسا الخير ومسا الخير .. الله يمسيكم بالخير.. الله يمسي حارتنا .. يللي لمت شملتنا .. يا سباع البر حومي .. اشربي ولا تعومي .. اشربي من بير زمزم .. زمزم عليها السلام .. يا سلام اضرب سلام .. عللي مظلل بالغمام .. الغمامة غمتو .. غمتو وما لمتو .. غمتو خوفاً عليه .. وعلينا وعليه .. وعلى من زار قبره .. وعلى من حج إليه .. محمد زين محمد زين .. محمد يا كحيل العين .. ودخل الحجي و الحجة البيت الذي زُينت جنباته، بين (زَلاغِيط) الصبايا وأهازيج النساء : أوها … يا حجي … حج البيت يلبقلك يللي مسكت شباك النبي … تنقل على مهلك يللي ملايكة السما … قامت ونادتلك لرش والله ورد الحبق على دربك لي لي لي ليش فجاوب أخريات : شقشق العصفور لانفلق بين الدوالي والورق يا محلا فوتة الغايب وشُّو مكلل بالعرق ازدحم البيت بالمهنئين أياماً عديدة، يدخلون ويخرجون أفواجاً أفواجاً، وصُفَّت أطباقُ الفواكه، وصَواني الحلويات، وأكوابُ الشاي، وفناجينُ القهوة، وتمرُ المدينة (هدية النبي). وحين عاد الحجي من صلاة الفجر، في اليوم التالي لرجوعه الميمون من الحج، وقف في أرض الديار يتفقدنا فرداً فرداً، يَربِتُ بيده على الغصون، ويداعب الوريقات، ويَنكُش التراب، ويشم الزهور والورود. كنت أتمنى أن أقفزَ من مكاني كما يفعل الأطفال، أناديه، أقول له، أنا هنا، هنا … حبيبتك الياسمينة البلدية البيضاء، أُنْظُرْ إلى صِبَايَ وجمالي، فقد زينتُ أغصاني خصيصا لقدومك، ونثرت أجمل أزهاري فرحاً لعودتك، لكنه تابع خطواته دون أن يلتفت إلي. لو كان لي دموع، لو كان لي لسان، سبحانك ربي، وهبتني عطراً جميلا، لا أملك سواه، تُرى هل يُعقلَ أن تعشقَ ياسمينةٌ بريئة (حجياً) محترماً، أو يقعَ (حجيٌ) طيبٌ في غرام ياسمينةٍ بيضاء. استدار الحجي فجأة بعد أن أنهى جولته في أرض الديار، وتوجه صوبي، أجل صوبي أنا، إنه قادم إلي، وقف أمامي، تأملني من جذوري إلى أعلى غصوني، مسح برفقٍ على بعض وُريقَاتي، قبَّل زهرة من زهراتي، وخاطبني بصوت رفيق حنون : “وَصَّلْتُ سَلَامَكِ للنَّبِي”، “قلت له تُسَلِّمُ عَلَيكَ ياسمينتي البلدية البيضاء”. عاد الهدوء والنظام للبيت بعد عدة أيام، وانتَظَمَت دورة الحياة من جديد، وعُدتُ أراقب الحجي يتوضأ عند الفجر من ماء البحرة البارد، فيُفيضُ الماءَ على وجهِه وأطرافه، ثم يستكملُ زينتَه، ويلبسُ ثيابَه الأنيقة، وينثرُ على نفسِه بعضاً من عطر الياسمين، ثم يتجه بخطوات بطيئة إلى (باب الزقاق)، فيفتح (الدقر) بـ (الساقط) الحديدي الطويل، ويطرقُ بـ (السقاطة) طرقة واحدة أو طرقتين خفيفتين، مستحثاً ابنه الفتى أبا وليد حتى لا تفوتَهم الصلاة. كان أبو وليد يومَها فتى صغيراً (لم تفقس عنه البيضة بعد)، وكان وحيدَ الحجي لم يرزق ولداً غيره، ولم يدَّخِر هو والحجة جهداً في تربيته وتنشئته تنشئة طيبة صالحة، فهو بكرهما و (أول فرحتهما) وآخرها كما اتضح فيما بعد. كانت الحجة تغني له في صغره وهي تهز (المَرجُوحَة) التي عُلِّقَت في أرض الديار : أُوْ لَّا يا أو لَّا ني راح الحج و خلَّاني راح الحج عَبْلادو يا ربي لا تنساني حطيتو بالمرجوحة خفت عليه من الشُّوحة و هزيلو يا شرشوحه بركي على صوتك بنام هزيلو يا سعدية ستي زينب ورقية لابسه جبّة خضره بركي على صوتك بنام ولم يكن أبو وليد يُسْلِمُ عينيه للنوم مالم تحكي له الحجة حكاية من حكاياتها العجيبة، مُدبَّجةً بعبارتها المشهورة : (بَرَّا كانْ و جُوَّا كانْ و تَخْترْوَانْ و شَادرْوَانْ لَحَتَّىْ كانْ … )، ويوم (طهور) أبي وليد، ألبس الجلابية البيضاء، وأركب على حصان، ووضع (طربوش) صغير على رأسه، وعَمِلَت الحجة (ليلية)، قدمت فيها الضيافة (الكاملة) للمهنئات. وهكذا تربى أبو وليد (كل شبر بندر)، وأرسل إلى (الكُتَّاب)، وداعبت رأسه الصغيرة (مَصْطِيْجَةُ) الشيخ سليم حين تلكأ في إتمام (جُزُو عَمَّ)، وتعلم من شيخه قصيدتَه العصماء التي لطالما سمع الفتيةَ في الحارة يرددونها : ألف : لا شن عليها .. با : وحده من تحتها .. تا : تنتين من فوقها .. ثا : ثلاثة من فوقها .. حتى إذا شهد له (شيخ الكُتَّاب) بإتقان الكتابة والحساب، وإتمامِ حفظ كتاب الله، ألحقَهُ الحجي بـ (مكتب عَنْبَرْ) ليُتِمَّ تحصيله العلمي هناك، فابنه ليس أقلَّ قدراً من علي الطنطاوي و أنور العطار و شكري القوتلي. وكان حتماً على أبي وليد أن يتقنَ فوق ذلك كله (كارا) من الكارات، فالشوام أصحاب تجارة وصناعة، وكثير من أسماءِ عائلاتهم نسبةً إلى (الكار)، فمنها الصواف واللحام والطيان والحفار والبغجاتي والطرابيشي والنشواتي والألجاتي، وكان على أبي وليد أن يختار بين أن يلتحقَ برفاقه في (خان الوردة) ليتعلمَ فتل الحرير وتجارته، أو يتخصصَ في (الألاجة) والنسيج. فإذا رضي (شيخ الكار) عن أبي وليد، وشَهِدَ له بإتقان كاره، فحينذاك يكون قد جمع بين الدين والعلم والصنعة، وصار (شَب مشُورَب)، لا ينقصه إلا إكمال نصف دينه بزوجة كريمة (بنت عالم وناس). كانت الحجة محتارة فيمن تختار زوجة لإبنها الشاب، فالحجي له وزنه ومكانته بين وجهاء الحي و (أكابرِيته)، والجميع يرغب في مصاهرته، وأبو وليد شابٌ خلوقٌ متعلمٌ صاحبُ صَنعةٍ وجيبه (ملآنه)، وهو فوق ذلك كلِّه، وسيمُ المحيا، طاهرُ الذيل، مشرقُ الوجه، جميلُ الطلعة. كانت الحجة حائرةً مترددة، فهل تختار لإبنها عروسة من بيت (الحَسَنِي) أبناءِ الشيخ بدر الدين، أم من بيت (المُنَجِّد)، أم من بيت (الشهبندر)، أم من بيت (الالشي) الذين قَدِمَ أجدادهم من الأندلس منذ سنين طويلة، وكلها عائلات كريمة (أكابر)، يحبهم الحجي ويحبونه. كان الحجي و الحجة يتوقان لليوم الذي يمتلأ فيه البيت بأحفادهم، يعيدون الحياة إليه بصياحهم وضحكاتهم، وهَرَجِهم ومَرَجِهم، وكان هَمُّ الحجي أن يُرزق بحفيدٍ يحمل اسم العائلة من بعده، وحفيدةٍ تنشر الحنان والجمال والرقة في البيت، وكان يستعجل الأمر بعد أن وهنت قوته، وضعف جسده. كان يوم (اللازمة) يوماً لا يُنسى، أُخْرِجَتْ فيه عُدَّةُ (الغَنْدَرَة) من صناديقها، وتناثرت أدواتُها في كل صَوبٍ ورُكن، مابين (المكاحل) الخشبية والنحاسية، و (علبة مَكِّي)، و (الدُّرُور الأحمر)، وبتلات الورد الجوري، وأزرارُ الفُلِّ البلدي، و (السُلَيْمَانِي)، وازدحم دكان (بُرُّوْ العطار) بالزبونات، يسألنه ويطلبن منه كل جديد. ومن جهتي أنا الياسمينة البلدية البيضاء، و (كُرْمَى) لعيون الحجي … و الحجة، تبرعت بمجموعة كبيرة من أجمل زهراتي، لتُصنع منها عقود الياسمين، يُزينُ بها رأسُ العروس وجيدُها. وفُتحت أبواب الخُزُنِ وحُلَّتِ الصُرَرُ الأنيقة وأخرجت منها نفائسُ الفُرُشِ والثياب، وزُيِّنَت زوايا البيت بالدَّامسكو و (الأغباني)، وأخرجت الحجة من صندوقها الخاص قطعا من الذهب والألماس، فهي (مُنْعَمَة) والحمد لله لا تحتاج إلى (العِيرَة)، واختارت منها ما ستقدمه هي والحجي وابنها للعروس. وبدأ الخياطون بتفصيل ثياب جديدة تليق بالحجة وابنها العريس، وأخرجت عصا الحجي الأبنوس السوداء الثمينة، وطقمه العربي النفيس، وتم اختيار طربوش رسمي للحجي تدلت خلفه (شَراشِيبُهُ) الحريرية السوداء، وطُرزت حوافه بخيوط الذهب، يليق بالمناسبة الهامة، فضيوفه اليوم وجهاء أهل الحي، و (كبارية) البلد. والطربوش (قَدر وقِيمة)، يلبسه (بكاوات) و (باشاوات) الشام من أيام السلطان (سليمان القانوني)، وللحجي طرابيش كثيرة، منها ماهو للسهر مع الأصدقاء، ومنها مايصلح في الأسواق، ومنها ما هو رسمي لمقابلة الوجهاء و (المقامات)، شأنه في ذلك شأن (المُنْعَمِين) وميسوري الحال، أما الفقراء والبسطاء فلديهم طربوش واحد فقط. حجزت أسرة العريس (حمام نور الدين الشهيد) وسط (سوق البزورية)، قرب (خان أسعد باشا)، رغم بعده النسبي عن البيت، فهو يليق بمكانة الحجي وأسرته العريقة، فجدرانه مرصعة بـ (القاشاني)، وأرضه مفروشة بالرخام، وقِبابه مزينة بعقود الجص النافرة، بينما اختارت أسرة العروس (حمام البَكري) القريب من دارهم لتجهيز العروس، ودفعوا الإكراميات للـ (مُكَيِّسَة) و (البلَّانة) و (الناطورة). أنهى العريس أبو وليد حمامه، وقُرِئ المولد الشريف، وتحلَّق حوله شبان الحي، يَخِزُونَه بالدَّبابيس، ويُشاركون الحلاق في (تلبيسه) وتطييبه، فألبس طقمه الأسود الجديد، وطربوشه الخمري، وأصدقاؤه يهتفون : “صلوا على محمد … مكحول العين … ونير وغضير … وعادينا … وهيه”، ثم حُمِلَ على الأكتاف، وانطلقت به (العَراضَة)، تَلُمُّ شباب الحي، وأصدقاءه وهي تنادي وتهتف فَرِحَةً : عريس الزين يتهنا .. يطلب علينا ويتمنى .. عريس الزين يا غالي .. ويا مسهرني الليالي .. عريس الزين ما بيعو .. لو جبلي الدهب غالي .. شن كليلة شن كليلة .. شو هالليلة شو هالليلة .. من هالليلة حمل السلة .. ومن هالليلة صار له عيلة .. الله يعينو على هالليلة.. شو هالليلة ما أحلاها .. للحبايب بنتمناها .. و ياعريس كتر ملبّس مسا الخير ومسا الخير .. الله يمسيكم بالخير .. الله يمسي حارتنا .. ياللي شملة حملتنا .. حملتنا عالشيخ رسلان .. شيخ رسلان يا شيخ رسلان .. يا حامي البر والشام .. ثم تباهى شباب العراضة بشجاعتهم ورجولتهم وبطولتهم في الحرب : وان هلهلتي هلهلنالك .. حطينا البارود قبالك .. وان هلهلتي يا عروبية .. الواحد منا يقابل مية .. كانت (بُقَجُ) النساء المُذهبة قد سبقتهن إلى الحمَّام، الذي أعدت فيه أطباق (المجدرة)، و (طواحين المخلل)، وحين عودتهن مُتَّشِحَاتٍ بالملايا السوداء، أسرعن في مِشيتهن، تحاشيا لأنظار الفضوليين وألسنة (الزعران)، التي اعتادت معاكسة النِّسوَة المُستَحِمَّات : يا رايحة عالحمام خديني معاك لاحمل البقجة وإمشي وراك وان كان أبوك ما عطاني ياكي لاعمل عمايل ما عملها عنتر |
||||||||||||
|
10-31-2020 | #3 | ||||||||||||
|
جابت عراضة العريس حارات الحي العتيقة، فمرت بـ (النَّارنجة)، و (سوق القاضي)، لتصل إلى (ستي رابعة)، حيث يقع بيتا العريس والعروس، وحين وصل أبو وليد إلى البيت، تلقَّتهُ أمُّه الحجةَ وقريباته فاجتاز الدهليز الموصلَ إلى أرض الديار، وأطل على النسوة المُتَلَفِّعَاتِ بالأغطية والمناديل البيضاء، تستر رؤوسَهُن وزنودَهُن العارية، فاستقبلنه بالزلاغيط يرددن : أوها ياعريس لاتعبس .. أوها فريد البقجة والبس .. أوها شواربك عروق الريحان .. أوها وسوالفها عروق النرجس .. لي لي لي ليش أوها ببيتنا رمانة .. أوها حامضة ولفانة .. أوها حلفنا مامنقطفها .. أوها ليدخل عريسنا بالسلامة .. لي لي لي ليش أوها عاللعلعي عاللعلعي .. أوها ياصبايا تجمعي .. أوها ياليل طول طول .. أوها وياشمس لاتطلعي .. لي لي لي ليش يا عروسة ويا بنت الدلال والخير .. ويللي طلع بجهازك ألف كم وديل .. ويللي طلع بجهازك الف سرية .. ومية عبد يشدوا بركاب الخيل .. ووزعت على الضيوف صُرَرُ (الملبس) وصحون (القيمَع و الدَّندرمَة) المعجونة بالفستق. كانت ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، تمايسَ فيها الوردُ الجوريُ على شعور الصبايا، وازدانت الصدورُ بأطواق الياسمين، تُجاورُ عقودَ اللؤلؤ والألماس، وانتثرت على الموائد وبين الأطباق باقات النرجس المغرورة، وتبادلت الأيدي الناعمة أزرار الفلِّ البيضاء، وبَدَتِ العروسُ في بدلتها المصنوعة من الـ (قصب صَرمة) كنجمةٍ فَرَّت من مملكة السماء، وفي الـ (صَبَحية)، فتح أبو وليد عينيه على غناء عروسه أم وليد وهي تترنم، وتَعِدُ زوجَها بمستقبل سعيد : يسعد صباحك ياللي صبحتني أنا اليوم لشلحلك البدلة الرسمية ولبسلك قميص النوم لم يمض وقت طويل على (فرحة) الحجة بابنها أبي وليد، حتى أتمَّ الله سرورَها، فرُزقت بحفيدها وليد، أعقبته بعد ذلك بفترة أخته (العروسة) المغناجة، حبيبةَ جدها وجدتها، ومدللتهما الصغيرة، وقُدِّمَت في (المباركة) في كل مرة، فناجين (الكراوية) الكبيرة المجللة بـ (المُكَسَّرَّات)، وتلقت الحجة وأم وليد (النُّقوط) من المهنئين. كانت (العروسة) الوليدة كثيرةَ الدلال، تتقلب بين أحضان أمها وجدتها، تنعم بحنانهما ودفئهما، وهما تُهَدهِدَانها كي لا تزعجَ جدها بصياحها وضجيجها، فلم تكن تهدأ أو تنام إلا إذا داعبت أسماعَها أغنيةُ جدتها الحجة بصوتها الرقيق : نامي يا عروسة نامي لادبحلِكْ طير الحمامِ و يا حمامة لا تخافي عم بضحك عا بنتي لتنام وكنت أنا الياسمينة الغبية، أرتجف خوفاً وحزناً على الحمامة المسكينة المذبوحة، التي ستسيل دماؤها على أرض الديار، من أجل عيون (العروسة) المدللة، وأعجَبُ من هذه (العروسة) الشريرة، التي لاتهدأ ولا تنام إلا إذا سالت دماء الحمام، إلى أن أدرَكتُ فيما بعد، أنها مجرد أغنية شجية، يَرضعها الأطفال مع حليب أمهاتهم، ليتعلموا منها أساليب الكلام، وطرائق التعبير، ومُلَحَ القول. تحققت أمنية الحجي و الحجة، فهاهو البيت يحيا من جديد، وصرخات وليد و (العروسة)، وأصوات قباقيبهما الصغيرة تملأ المكان، وشقاوتُهما وطيشُهما يُعيدان ذكريات أبيهما أبي وليد، فراحا يتسلقان الأشجار، ويقصفان الأغصان الرقيقة، ويقطعان الزهور والورود، وكنت أسامحهما قانعة راضية، فأنَّى لطفلين صغيرين أن يعرفا قيمة الياسمين. كم مرة غافل وليد و (العروسة) الحجة، فدخلا القاعة، وأوقعا (السكملات) الصدفية الثمينة، وقفزا فوق الطواطي، واختفيا في (اليوك)، وبعثرا الطعام في (النَّملية)، وكادا يحرقان أصابعهما بالـ (مَنقل)، فعادت (طاسة الرَّعبة) بزخارفها والآيات التي نُقشت عليها للعمل من جديد. كانت الأيام تمضي ما بين (لازمة) وأختِها، فأهل الحي كلُّهم يحبون (اللَّمَّة)، ويَهيمون بـ (العرَاس المطنطنة)، ويَهوون الحفلات، ويعشقون (السَيَارين)، و يستمعون للـ (الحَكَواتية)، ويتفرجون على (كَرَكوز وعِيوَاظ)، وكل ما ماثلها من (خَيلات). وكم كانت جميلة أماسي الصيف، حين يجتمع الرجال من عَلِيَّة القوم في الليوان، يتمتعون بحسننا وجمالنا، ويتجاذبون أطراف الحديث، ويتذاكرون لياليَ الأُنس في (قصر العَظم) أو (بيت المجلد)، ويسير حديثهم هينا لينا مليئا بالمجاملات، يطلب أحدهم كأسَ ماء أو شراب، فيأتيه الجواب (حاضر على راسي وطرة طربوشي)، يداعبُ آخرُ أحفادَ الحجي ويقول له مبتسماً (يربو بدلالك) و (الله يخليلك هالشمعات). ثم يتشعب بهم الحديث عن الناس والأحداث، ففلانٌ ليس له قيمة فهو (صفر عالشمال)، وآخر ليس كُفأً لتَحَمُّلِ المسؤولية لأنه (سايقها عَوَنطَة)، وذاك الغبي أو المُستغبي (خالط شعبان برمضان)، وعَلَّان غيرُ فاهمٍ لأمور الحياة ومطالبها فهو (مطبل بالدنيا مزمر بالآخرة)، أما الحجي و (كبارية) الحي فهم دقيقون في أمورهم، منتظمون في حياتهم، فهم (لايحبون الزاحلة). أو حين يجتمع النسوة في أرض الديار، فـ (يَكْبِسن) (المَكْدُوسَ) بالزيت، بعد أن يَحشينه بالجوز والثوم والفليفلة الحمراء، أو وهن مُشَمِّرات يَعصرن البندورة، أو يَنشرن الملوخية، أو يَغلين الجبنة، أو يَفلقن المشمش البلدي، أو يَشوين (الكبَّة)، أو يَحفرن (المَحشي). وحديث النسوة طويلٌ متشعب، تتخلله ضحكةٌ من هنا، وهمسةٌ وغمزةٌ من هناك، وأولاد يركضون لإحضار طلبات أمهاتهن الصائحات الموجهات لهم (ليكو) و (ليكوكه)، فإذا جَدَّ الجَدُّ فالحجة هي الآمرة الناهية، لا يجرؤ أحد على مخالفتها، أو (كسر كلمتها)، فهي ست البيت، ولو طلبت لبن العصفور لنالته. كان حديث النسوة مسلياً كحديث رجالهن، مُوشى بـ (المَتَلْ)، مليئا (بالوَمَا) والإشارات، لايفهمه إلا من نشأ بينهن، فشرب من مائهن، وتنفس من هوائهن، يسخرن من حديث أبو فلان فيُشبهنه بالغراب الناعق فوق شجرة الجوز، يزعج السامع ويجلب الشؤم فهو (متل القاق على الجوزة)، ويتندرن على أبي فلان الغارق في مشاكله ومتاعبه لايجد لها حلاً ولا مخرجاً فحاله (متل الخنفسة بالطاسة)، ويشتكين من عبوس أبي علَّان لأنه (ما بيضحك للرغيف السخن)، ويهزأن من انكشاف سر إحداهن فهنَّ (دافنين الشيخ زنكي سوا)، ويستعذن على الدوام من (العيون الزرق والأسنان الفرق)، ويُرجعن جميعَ مصائبهن ومشاكلهن إلى مِقَصٍ تُرك مفتوحا، أو نَعلٍ وضع مقلوبا، ويختمن حديثهن قائلات (الله يرحم أهل المَتَلْ … ما تركوا شي ما قالوه). وليالي رمضان، آه من ليالي رمضان، كنت أنتظر بائع الناعم يُسمعنا غِنوَته الغزلية الشجية (يللي رماك الهوا يا ناعم)، وكنت أراقب (السكبة) كل إفطار وكل سحور (رايحة جاية) من بيت إلى بيت، مثلنا معشر الياسمين، عطرنا وجمالنا مشاع بين الناس. عادت طلقات الرصاص تدوي من جديد، وقد رسمت الشمس أولى خيوطها الذهبية على جدار القاعة، وانتشر الضياء في أرض الديار. في هذا الوقت من كل صباح، يخرج الحجي بُعَيدَ شروق الشمس، رفقة ابنه أبي وليد من الباب القبلي للمسجد، فينعطف شمالا، ليسير بحذاء الجدار الطويل، ماراً بـ (القباقبية)، ملقياً التحية على أصحاب الدكاكين وهم يفتحون أغلاق محلاتهم، ويُعَلِّقون قباقيبهم وبضاعتهم على الواجهات، ثم ينعطف شمالاً مرةً أخرى، فيصلُ بعد خطوات قليلة إلى باب جيرون الشرقي، ليتابع سيره بجانب النوفرة الصغيرة العريقة الشهيرة، ويدخل عندها في حيِّنا الجميل. أنا (قيمرانية)، نسيتُ أن أخبرَكُم، أنا ياسمينة شامية بلدية، وأنا (إيمرانية)، عشت في (القَيمَريَّة) قبل أن تولد، ثم ولدت مع ولادتها من جديد، (القيمرية) مثلي أصيلةٌ (بنت بلد)، هي من الشامِ في القلب، وهي أمُّ الشام وصدرُها الحنون، (راتبة) كأهلها (الأكابر)، حتى قنصل الإنجليز سكن في حيِّنا من شدة إعجابه به. حين تطأ قدما الحجي أرض الديار تكون الحياة قد دبَّت في أسواق الحي، وأصوات الباعة تعالت في الفضاء، تغني للفواكه والخضار، فبائع التوت الشامي يناديه مادحاً (أكله شفا ياشامي)، وبائع اللوز الأخضر يغني للوزه (أول فواكي الشام يا عوجا)، وبائِعَي البندورة والصبَّارة يغازلان ثمارَهما (حمرا يا بندورة) و (مَزَّاوية يا صبارة)، بينما حاز الخيار على أجمل الأوصاف وأكملِها (أصابيع البوبو يا خيار). كنت أمضي أسعد أوقاتي بين (مواويل) الباعة، ولَغو النسوان، وشقاوة الأولاد، وسهرات الرجال، ممتعة ناظريَّ بـ (مئذنة العروس) و (قبة النسر)، فكم هو جميلٌ أن تعيش ياسمينة طيبة مثلي بين عائلة رضية هنية. لكن السعادة لا تدوم، ولحظات الفرح قصيرة، سرعان ما تمضي هاربة مولية، مرض الحجي، وطال مرضه سنوات عدة، تتحسن صحته بعض الوقت ثم تسوء من جديد، كنت أصلي له كلَّ فجر، وأشتاق إلى كفه الخضراء الحنون، وصوتِه الأجش، لكنَّ القضاء حُم، والأجلُ قدرٌ لا مفرَّ منه، فأسلم الروح إلى بارئها بُعَيْدَ فتنة (البَعْث) بأسابيع قليلة. كان يسأل الله دائماً أن يجنبه عشرة هؤلاء الأنجاس، فهم والفَرَنسَاوي سواء، بل هم أسوأ من الفرنساوي ألفَ مرة، فهو عدوٌ ظاهرٌ غريبٌ عن البلد وأهلِها، أما هؤلاء، فعدوٌ باطنيٌ مُستَتِر، يتحدث بلسان أهل البلد، ويدَّعي الإنتسابَ إليهم، ثم يغدر بهم مقابل حفنة من متاع. كان دائم الحزن على الشام وأهله، يسترجع ما عانوه في غابر الأعوام، ويستجلي ما ينتظرهم في قادم الأيام، فحظهم من الدنيا كما يقال (فوق الموتة عَصّة قبر)، ولمَّا أخبر بتحالف البعثيين مع الإشتراكيين والناصريين في انقلابهم المشؤوم، ما زاد على قوله متحسراً (التم المتعوس على خايب الرجا)، وحين عاده صديقٌ ممن وضع يده في أيديهم، رفض مصافحته وتَجَهَّم وجهه قائلا له : يافلان أما تستحي أ (بعد الكبره جبه حمره)، أي عذر لك في السير مع أعداء الشام وأهل الشام، أليس ( المكتوب مبين من عنوانه). وهل تُجدي النصيحة مع أعمى البصرِ والبصيرة، فـ (يلِّي ما بيشوف من المنخل أعمى)، لكنه ظل يعتقد أن كيد هؤلاء إلى زوال، وأن الشام باقية مابقي الياسمين، وأنه في النهاية (ما بيصح إلا الصحيح)، وهكذا لم يرغب الحجي أن تُختم حياته بصحبة هؤلاء المفسدين، فآثر جوار ربه، حسن السمعة، كريم الأثر، نظيف القلب واليد. ولم تلبث الحجة أن لحقت بزوجها وحبيبها وصديقها بعد سبع سنوات، أقعدها المرض العضال يوم بيعت البلاد، وخرجت روحها الطاهرة بعد أن تسلَّط البائع والسمسار على العباد، وما بقي من البلاد. كانت تتألم كلما سمعت صوت (المغضوب) يُلعلع في المذياع، مُستَذكرَةً على عادتها (المَتَلَ) القائل (قال يا فرعون مين فرعنك … قلهون ما لقيت حدا يردني)، ثم تترحم على (كبارية) الحي، الذين لو كانوا أحياء اليوم، لما تركوا مجالا لهذه الإمَّعَات تتحكمُ في رقاب الخلق، فالحال كما يقول (المَتَلْ)، (غاب القط إلعب يافار). وكان أشدَّ ما يُضحكها سماع الخطب الرنَّانة، وكلمات التهديد والوعيد، تنطلق من أفواه أولئك الخَونَة، فتقول مبتسمة على مضض (كل ديك على مزبلته صياح)، و تهزأ بهؤلاء (الحَشْت نَشْت) الذين راحوا يُعطون الناس دروسا في حب الوطن والذَّودِ عنه فتقول ( صار للدبانة دكانة وصارت تسكر عبكير)، فإذا ما سمعت وعودَهم بالتطوير والتحديث والتقدم والرفاه، مازادت على أن تقول (لحاق البوم بيدلك عالخراب). ويوم وفاتها اكتسيتُ حلَّةً بيضاء ناصعة، فأزهَرَت جميعُ أغصاني، ونَفَحتُ أطيبَ مالديَّ من عطرٍ وأريج، فنحن معاشرَ الياسمين الشامي، حُزنُنا بياض، ودموعُنا عطر. ومنذ وصولِ (المغضوب)، انطفأ الفرحُ في بيت الحجي، وعَلَتهُ غمامةٌ من الحزنِ والخوفِ والإهمال، فانتشر (العَواينية) في كل مكان، يرصدون حركات الناس ويُحصون أنفاسَهم، ولاحقهم المذياع والتلفاز داخل دورهم وغرفِ نومهم، يُفسد عقولهم وأخلاقَهم، ويملؤها بصديد (المغضوب) وقيحِه. وملأت أفواج (الغرباء) و (اللاطمين) أزقة الحي، ونجَّسَت تُربَهُ، وجالت بأشكالها القَمِيئة، ووجوهها الشَّوهاء، في جنبات المسجد العريق، عابثة بحرمته، مُدنسة طهارته، وأصبح لبنات الهوى صولةٌ وجولة، بحماية حراب الطاغية وسَدَنته من (السَرْسَرِية) وعبيد المال، وطأطأت مئذنة العروس رأسها، بعد أن مٌنع الدُّومَري من إسراج أنوارها. وضاق الحال بأبي وليد، فالمال والرزق أضحى حكرا على عبيد (المغضوب) من المرتزقة والوصوليين، واضطر مراراً أن يبيع بعضاً من (مالكانات) الحجي وحُليِّ الحجة، للغرباء القادمين من الشرق والغرب، ليُنفق على زوجه وعياله، فيقيهم مرارة التسول وذل الفقر. كان أبو وليد يُهدي أصحابَه المهاجرين، قارورةً من عطر الياسمين، وينصحُ أصدقاءه اللاهثين وراء (المغضوب)، طمعا بالغنيمة والفوز بفتات الموائد قائلاً (يا آخد القرد على ماله … بيروح المال … وبيضل القرد على حاله)، وحين يتخلى بعضهم عنه، إيثاراً للسلامة ورياءً للطاغية، يقول في نفسه (يلِّي ببيعك ببصلة … بيعو بقشرتها). وطالت سكينُ الجزار رقابَ العديدِ من أصدقائه الطيبين، فلم يَعُد هناك من يُسِرُّ له مافي قرارة نفسه، أو يشكو له مرارة ألمه، وأُغلِقَ الكُتَّاب و مكتب عنبر، وعوضاً عن (جُزُو عَمَّ)، حفظ وليد وأختُه (العروسة) أغانيَ (الديك)، وثالوثَ البعث، وأقوالَ المغضوبين. سارت الحياة في بيتنا على هذا المنوال سنين طوالاً، فأصبحت الكآبةُ رفيقتَنا، والصمتُ عدتَنا، والخوفُ صديقَنا، فطينُ الأرض قد جف، وماءُ السماء قد شح، ويد أبي وليد لم تعد (خضراء) كيد الحجي من قبل، وأم وليد لم تعد كلمتها مسموعة كحماتها، وأُهمِلَت (الزريعة) في أرض الديار، ويبست بعض أغصانها، وذَبُلت أزهارُها وورودُها، فكأن البيت أضحى قبراً مفتوحاً، أجسادٌ حية، وأرواحٌ وقلوبٌ ميتة. لم أعد أدري لِمَنْ أزهر ولمن أتعطر، فلا مُعْجَبَ ولا عاشقَ ولا مُحِب، بل كنت أحس في كثير من الأحيان، نظرات الحزن ممزوجة بالكره، تتسلل من عيون أم وليد، فنحن برأيها سبب حرمانها من العيش في الحي الجديد، لتسكنَ في بيتٍ راقٍ بني على طراز الخواجات، تملؤه الزهور والورود الصناعية، لا تحتاجُ إلى سقاية ولا عناية. كانت إذا رأت (الهوا) تخيلت نفسها كورقة يابسة تتلاعب بها عاصفة هوجاء، وإذا لمحت (المجنونة) حسبتها أمواجاً غاضبة تتقاذفُها كعودٍ صغير، وإذا لمست (تم السمكة) بدت لها كحوتٍ كبير فتح فمه و همَّ بابتلاعها. كانت أم وليد تكره (المغضوب) كزوجها، فهو السبب في وفاة والدها، وهجرةِ أخيها، وضياعِ ميراثها، ولم تكن لِتُسَرَّ بخلافة ابنه بعد موته، فحالُها كما يقول المَتَلْ (ما سرني القرد ليسرني أبنه). ولم يُفلح أبو وليد في إقناعها ألا تأخذ الإبن بجَريرة أبيه، كانت مُصِرَّةً أن الفسادَ متأصلٌ في هذه العصابة فـ (طول عمرك يا تينة مجعلكة)، وهل انصلحت ذرية القرود في يوم من الأيام، أو تابت الذئاب، و (دنب الكلب أعوج ولو حطوه بمية قالب)، فكانت تبتهل إلى الله صباحَ مساء أن يريحهم من الإبن كما أراحهم من أبيه وأن (يلحق الحبل بالدلو). كانت ترى الأناقة الزائفة لـ (المغضوب الشاب) وشُلَّتَه، فتشبههم بجامع القُمَامَةِ الذي ارتدى أفخم الثياب، ورش نفسه بأثمن العطور، وتقول (زبال وشاكل وردة)، وتسخر من العمائم المنافقة التي تدعو له صباح مساء، فكأنهم فئران نجسة أدمنت سُكنَى المجارير، ثم راحت تتصنع الطهارة، رافعةً أيديها إلى الله، فأنَّى يُستجابُ لها، فـ (لا الفارة طاهرة ولا الدعوة مستجابة). لكنها لم تألُ جهداً في نصحِ زوجِها وتأنيبِه، وكبحِ جماحِه ورَدِّه عن مشاكسة أزلامِ الطاغية وأعوانه، فالخنزير برأيها لن يَطهُرَ في يوم من الأيام، مهما غُسلَ بالماء، ولن تُستأنسَ الأفاعي الغادرة، فلاصلاح لسادرٍ في غَيِّه، وغارقٍ في إثمه، و (فالج لا تعالج)، ولطالما رجته أن يَحرصَ على نفسه وبنيه وبيته، فلا يتسبب لهم بالأذية، ولا يوقعهم في المحذور، و (يلِّي ما بيخاف الله خاف منو). كان أبو وليد يُهَوِّنُ لها من أمر هؤلاء الظلمة، فهم ليسوا سِوى زَبَدٍ سيذهب جُفَاءً بعد حين، وسيبقى ما ينفع الناس في الأرض3، وأنه (ما بتكبر إلا المزبلة وما بيعلى إلا الدخان)، وأن قدر الله غالبٌ لا مفر منه فـ (المكتوب ما منه مهروب)، وأن الصبرَ قد نفذ، والأبوابَ قد سُدَّت، فلم يبق لدى الناس علمٌ ولا عملٌ ولا دنيا ولا دين، فأضحى حالهم كفقراء اليهود، لا دنيا استفادوا ولا جنةً نالوا. فكيف لها وهي الجالسةُ في بيتها، أن تشعرَ بمعاناة الناس ومصائبهم وهمومهم، فـ (يلِّي عم ياكل العصي … مو متل يلِّي عم يعدها)، وهل من يغمس أصابعَه في الماء كمن يغمسُها في النار و (يلِّي إيديه بالمي … يا أمَّ وليد … مو متل يلِّي إيديه بالنار)، و لو أنها ذاقت نذراً يسيراً مما يناله من هوان كل يوم، لطفح بها الكيل، ولما نطق لسانُها بكلمة عتاب واحدة، فـ (يلِّي ما ذاق المغراية … ما بيعرف شو الحكاية). لكنَّ (العروسة)، آه من (العروسة)، كم كانت ملامحُها وطباعُها تذكرني بالحجي و الحجة، فهي الوحيدةُ في المنزل التي ورثت من جدها حبَّ الياسمين، وعشقَ الياسمين، فكانت تُطَيِّبُ خاطري، وتَربِتُ بكفها الناعمة على أغصاني، وتُقَبِّلُ زهراتي الوليدات، وتملأ صدرها كل صباح ومساء من عطريَ الفواح، فلولا يدها الحنونة، لكنت قد (حردت) من زمان. ملأ نور الشمس أرجاء أرض الديار ولم يعد أبو وليد وابنه الشاب من صلاة الفجر حتى الآن، ولازالت أصوات الرصاص تلعلع بين الفينة والأخرى، فتنشر الرعب والخوف في المكان. منذ عدة شهور تغيرت رتابة الحياة في المنزل بعض الشيء، حركةٌ غريبةٌ دبَّت في أركانه وجنباته، همساتٌ خافتةٌ، ودموعٌ وتنهداتٌ خائفة، وغمزاتٌ وإشاراتٌ مكتومة، فـ (الحيطان لها آذان)، و (الحرص واجب) في هذا الزمان، ومن ذهب لايعود، و (ألف قولة جبان ولا قولة الله يرحمه). تكررَ خروجُ أبي وليد صُحبةَ ابنه في ظُلمة الليل، حامِلَينِ على ظَهرَيهِمَا وبأيديهما بُقَجاً كبيرة ثقيلة، لا تشبه بقج الحمَّام السالفة، مُتَلَفِّحَيْنِ بعتمة الليل، مُتَسَتِّرَينِ تحت أجنحة الظلام، تَارِكَيْنِ وراءهما أمَّ وليد وابنتها (العروسة) راكِعَتَينِ سَاجِدَتَينِ رافِعَتَينِ أيديهما إلى السماء، راجِيَتَينِ السلامةَ والنجاةَ للغياب. في ذلك الصباح المشؤوم، رنَّ جرس البيت رنة واحدة قصيرة، فهبت أمُّ وليد وعروستُها مذعورتين يخفقُ قلباهما من اللهفة والخوف، وأدارتا المفتاح الصغير في قفل الباب الجديد على عجل، فدَلَفَ شابان ملثمان إلى المنزل، وهما يحملان كيساً ثقيلاً على عاتِقَيهِمَا، تَلفَتَا في أرض الديار ثم توجَّهَا نحوي، ومَدَّدا الكيس برفقٍ تحت أغصاني، وعالجا فوهته قليلاً بيديهما حتى فتحاه، فبدا بداخله أبو وليد مضرجاً بدمائه. كانت جراحُ أبي وليد تنزفُ بغزارة، بعد أن أصيبَ كتفه في المعركة الدائرة منذ الفجر، فقد اكتشف القنَّاصُ حركتهم المريبة، ولاحقهم برصاص مدفعه الرشاش بين الأزقة والبيوت، فلم يُفلِتوا منه إلا بشق الأنفس، وحين ولجوا البيت كان المجرم لا يزال يبحث عنهم مع زمرة من أعوانه في كلِّ أرجاء الحي. اصطبغت أغطية الصلاة البيضاء التي ارتدتها أم وليد و (العروسة) بالدم الأحمر القاني، وانكبت (العروسة) على والدها تُقَبِّلُ كتفهُ النازفةَ ويديه، ودموعُها تجري على وجنتيها الغضتين فتنهمرُ سيولاً على وجهه وجبينه، وكتمت أم وليد آهاتها في صدرها، فها قد وقع المحذور، وتحقق ما كانت تخافه وتخشاه. كادت صرخات أم وليد تَتَفَلَّتُ من فمها، فتفضحَ المستور، لولا أن توسَّلَ إليها أحد المُلَثَّمَينِ بصوت تخنقهُ العبرات، أن تكتمَ حزنها وآلامها، حتى لا يُفتضحَ الأمر وينتشرَ الخبر، ويكون مصيرهُم جميعاً، كمصير أبي وليد. فتح أبو وليد عينيه قليلاً، و مرَّ بنظره على زهراتي الدامعة، وزوجِه المكلومة، وعروستِه الباكية، وراح يرددُ فَرِحا والآلام تعتصرُه : يتبع |
||||||||||||
|
10-31-2020 | #4 | ||||||||||||
|
ثم نظر إلينا، وقد رأى العبرات تغسلُ خدودَنا … وقال بصوت واهن خافت :
ما لبثَ وليد ورفيقَه الملثَّمُ أن غادرا المنزل على عجل، ليلتحقا برفاقهما المجاهدين، بعد أن أودعا جثة الشهيد أمانة في ترابي، تُظلله أغصاني، وتتساقط على قبره زهراتي البيضاء، وقد امتزجت رائحتُها الزكية بدمائِه الأبية، فملأ عبيرُها أرجاءَ القيمرية، وجميعَ ربوع الشام. وبكيتُ … بكيتُ … أنا الياسمينةُ البلدية … وبكت معي الوردةُ الجورية … والفلَّةُ البيضاء … والنارنجةُ الطيبة … ومئذنةُ العروس … وقبةُ النسر … ورددت القيمريةُ كلُّها صدى بكائِنا … وبكتِ الشامُ كلُّها لدموعِنا … بيوتُها … أسواقُها … خاناتُها … دروبُها … وبكى لبكائِنا النهرُ والبحر … والسهلُ والنَّجد … والسماءُ والأرض … وكل طَيِّبٍ وخَيِّرٍ في الكون … فالكونُ يبكي … حينَ يبكي الياسمين. انطلقت أم وليد مسرعة صوب غرفتها تحزمُ حقيبتها، تحشوها بالوثائق والأوراق، تُحكِمُ إغلاقَ النوافذ، وتوصدُ الأبواب، وتسابقُ الزمنَ، خوفاً من قدوم المجرمين الباحثين عن أبي وليد ورفاقه المجاهدين، وخوفاً على عروستها من سطوة الظالمين. تفلَّتتِ (العروسة) من قبضة أمِّها، تتوسلُ بدموعِها أن تُمهِلَها لحظاتٍ قليلة، وانطلقت صوبي، عانقتني، لثمتني، قبَّلت زهراتي، روت بدموعِها السخينة براعمي الغضَّة، رفيقاتِها في الصبا والجمال، قبضت بكفها الناعمة على غُصين من أغصاني الوليدة، قطفته برفق، طلبت مني الإذن والسماح، ضمَّتهُ إلى صدرها، ووضعته قُربَ قلبها، ورجته أن يظل (من ريحة الشهيد) رفيقاً لها في دربها، مُؤنسا لها في غربتها. أغلقت أم وليد (باب الزقاق) بـ (الساقط) الكبير، واستودعت ذكرياتها وماضيها من لا تضيع عنده الودائع، فما انتصف النهار إلا وقدماها تائهتان في أرض الله الواسعة، ويدُها قابضة على عروستها كالقيد المحكم في يد السجين. لَفَحَتهَا رمالُ الصحراء، وثُلوجُ الأرْز، عطشت من مياه النيل، وخنقها دُخان النفط، تربص بها وبعروستها الأعراب والأغراب، ورماها بأحجارهم الروم والعجم، وراودَها عن نفسها وعروستها تجارُ المال والسلاح والدين، طلبوا إليها أن تستبدل الإيمانَ بالضلال، والسماحةَ بالحقد، والحضارةَ بالدم، والطهارةَ بالفحش. لم يَمُدَّ لها يد العون أحد، ولم يُسعفها قريبٌ أو غريب، إلا فلاحٌ طيبٌ غارقٌ في طين أرضه، أو عربيٌ أصيلٌ لازال صامداً على فرسه، أو ابن بلدٍ كريمٍ محافظٌ على عهده، فانتهى بها الحالُ وابنتَها (العروسة) على ظهر سفينة قديمة، تتقاذفُها الرياح الهوجاء، وتتلاعبُ بها أمواجُ البحر الغاضبة، تَذُرُّ الملحَ في عيون الخائفين، وتَسقي المُرَّ غُصَينَ الياسمين. وسار المركب المُتهالكُ يُصارعُ الأنواءَ فيَنُوءُ بها كَلكَله4، ويُغالبُ الأمواجَ فتَغلِبُه، وقد أرخى الليلُ سُدُولَهُ على الهاربين من القدرِ إلى القدر5، فزادَ همومَهم همَّاً، وأحزانَهم خوفاً وغماً، وقرر الفُلكُ القديمُ أخيراً أن يكتبَ نهايةَ القَضِيَّة، وأن يُودِعَهَا أمانةً في خزائنِ الكون، فاستجاب لموجةٍ عاتية، وانقلبَ بحملهِ من الأسَى والأحزان، ليُودِعَ في بطنِ البحرِ شهادةً على الجريمةِ النكراء، تطوفُ بها الأسماكُ والحيتان، دليلَ إدانةٍ لِكُلِّ بَنِي البَشر. تراخت قبضةُ أمُّ وليد عن يد (العروسة)، بعد أن أعيَتها عواصفُ الليل، تتلاعبُ بها كوُرَيْقَةٍ يابسة، فكأنها عودٌ صغيرٌ بيدِ مجنونةٍ لاهية، وتراءى لها من بعيد خيالُ (تم السمكة) الخبيثة، تفتحُ فَمَهَا الكريه، وتَمُدُّ لسانَها ساخرة، فتنزلق أمُّ وليد بداخله مودِّعةً الحياة، تاركةً (عروستها) وحيدة بيد القدر. رفعت (العروسة) يدها عالياً لتحميَ غُصينَ الياسمين الغض من ملحِ البحرِ ومُرِّهِ، رجته بشدة، توسَّلت إليه أن لا يخذلها كما خذلها الباقون، وألا يُفارِقَها كما فارقها جدها وجدتها وأبوها وأمها، فهو حبيبها وهي حبيبته، وهو خطيبها وهي عروسته. ذرفت دموعُ الياسمين، فهل لغصينٍ غضٍ طريٍ ضعيف، أن يصمُدَ في وجه المحن، ويُوصِلَ عروستَه إلى بَرِّ الأمان، وأطلق تنهيدة حملت ما في صدره من عطر وعبير، فنثره في وجه الظلم والظلمات. وبكى غُصين الياسمين، فبللت دموعُه وجهَ السماء … وأديمَ الأرض … وبكى لبكائِه النجمُ والقمر … والتُربُ والحجر … وكل طَيِّبٍ وخَيِّرٍ في الكون … والكونُ يبكي … حِينَ يبكي الياسمين.
كانت (العروسة) ممدةً على الشاطئ شاحبةً متشنجة، متوقفة الأنفاس، قابضةً بكفها الصغيرة على غُصينِ الياسمين المتعبِ الذابل، متشبثةً به، فلم يَقوَ رجال الإنقاذِ على انتزاعه منها بأي وسيلة.
نُقِلَت (العروسة) إلى خيمة صغيرة أعِدَّت على عجل، وتحلَّق حولَها جمعٌ من الناس، فيهم الأبيضُ والأسود، والأصفرُ والأشقر، سألوها عن اسمها واسم أبيها وأمها، عن الحجي والحجة، عن بيتها، وعن القاعة، والفُستُقية والقبقاب، عن مِئذنة العروس و خطيبها الدُّومَرِي، وعن زلاغيط النِّسوة وعراضة الشباب، عن الساقط و السقاطة، وعن المَكدُوس والسكبة، وعن نور الدين الشهيد، وعن الورد الجوري، وعلاقتها المشبوهة بالقيمرية والياسمين. أعطوها رزما كثيرة من الصحائف والأوراق، أرادوا نزعَ ثيابِها البيضاء المرصَّعةِ بالدماء، وعدوها أن يُودَعَ ماضيها في أرقى المتاحفِ والقصور، وأن يَبنِيَ حاضرَها ومستقبلَها جمعٌ من الخُبراء، مَنَّوها بأعذبِ الشراب، وأجملِ الثياب، وأثمنِ العطور، وأمهلوها ليلة أو ليلتين، فالبحرُ هادر، والليلُ جاثم، والحرابُ جائعة، وعليها أن تحسمَ الأمر قبل فوات الأوان. لم تنبس ببنت شَفة، ولم تذرف دمعة واحدة، فقد تيبست الكلماتُ في شفتيها، وتحجرت الدموع في مآقيها، وهل يُحييها إلا نسيم الغُوطة، وهل تَرويها إلا دموعُ الفيجة، وهل يُعطِّرُها إلا عبير الياسمين. حتى إذا نشرَ الليلُ سَوادَه، وأطفأ النهارُ سِرَاجَه، تسللت من خيمتها في ضوء القمر الخافت، وانطلقت مستعينة بخالقها، ترقبُ خطواتَها نجومُ السماء. توقفت عند التل القريب، أدارت وجهها، فلمحت عيناها، عويلَ الريح، وغضبَ البحر، وحطامَ المركب، وحبالَ الخيمة، وقطيعَ المتفرجين، رفعت بيُسراها أوراقَ الأممِ والعرب، وحقوقَ البهائمِ والإنسان، ودعايات الأصدقاء ووعيدَ الأعداء، ودجلَ الحكومة وسَفَهَ المُعارضة، وحِراب القتلة وسيوفَ الخَوارج، بصقت عليها جميعا، وداستها بقبقابها الخشبي القديم، وانطلقت بعيداً لا تلوي على شيء. سارت (العروسة) وحيدة، بثيابها الممزقة، وأقدامها الحافية، وعروقها العطشى، وبطنها الخاوية، تحمل جراحَها وآلامَها في قلبها، وغُصينَها الحبيب بيُمناها، تنشرُ عطرَ الياسمين في كل مكان حلَّت به، وتزرعُ الأمل في كل بلد مرَّت به، تحميها وحوشُ الغاب، وجوارحُ الطير، وتنافحُ عنها يد الطيبين، وبنادقُ المجاهدين، فسقطت أمامها الحدود، وانهارت الحواجز. خَطَتِ (العروسة) أولى خُطواتها في القَيمَريَّة، سَحَرَ إحدى الليالي، بعد أيام طويلة من المسير، ولمحت عيناها من جديد (باب الزقاق) العتيد، فمدت يدها وأخرجت (الساقط) من (عُبِّهَا) الصغير، وأدارته في (دقر) الباب، وولجت منزلها الحبيب. كانت الورود والأزهار والشُجيرات يابسة، تبتهل إلى الله أن يغيثَها بماء السماء بعد أن تخلت عنها مياه الأرض، وقد تراكم التراب على عتبات الشبابيك و أرض الديار، وتناثر زجاج النوافذ المحطمة في أرجاء المكان. ألقت (العروسة) التحية على مئذنتها الحبيبة، وقبَّلت (الفُلَّة البيضاء)، واعتذرت لـ (الوردة الجورية)، وجثت على ركبتيها، تضمُّ إلى صدرها الصغير أغصانَ الياسمينة العطشى، وترويها بدموعِها الحنونة، طالبة منها العفو والسماح، وتعهدت ألا تُفارِقَها مهما كانت الظروف. تاه القتلة وهم يبحثون عن (العروسة) في كل صوب، وأرسلوا قذائفهم تتعقَّبُها من درب إلى درب، فقد تعرفت إلى الكثير من الأسرار، وحوت في صدرها ألفَ قصة وقصة، وفوق ذلك فهي ليست طيبةَ السُمعَة، نَقِيَّةَ السيرة، قَويمَةَ السلوك، فلها ألفُ ألفُ حبيب، وألفُ مُتيمٍ وألفُ عشيق. فليكن قتلُها عبرةً لكل حالم، ودرساً لكل ثائر، فكَّرَ في يوم من الأيام، أن يتمرد على أسياده، أو يثورَ على مُستعبديه، وَلْيَكتُموا صوتَها، وَلْيُحْرِقُوا غُصينَها، قبل أن تفضح نَتَنَ الظالمين، وتنشر في الكون عطرَها الأثير، عطرَ الياسمين. وباءت بدمِ (العروسة) شظايا قذيفة غادرة، حملت في جوفها دناءة المجرمين، فسقطت شهيدة، عند أبيها الشهيد، يرنو إليها هابيلُ الشهيد، وتَفَلَّتَ من يدها الغضة الندية غُصينُ الياسمين، وأطلق تنهيدة واهنة، نثرت آخر ما تبقى في صدره من عبير، فامتزج بأنفاس عروسته الشهيدة، وتعانقت روحاهما معاً إلى السماء. لكن مجموعة من براعمه الصغيرة الوليدة، تشبثت بتراب القيمرية … وارتوت من دموع ودماء (العروسة) … فورثت منها العزيمة والمضاء، والإصرار على البقاء … فمدَّت جذورَها في الأرض من جديد … وأقسمت أن تظل دِمَشْق … عَرُوسُ اليَاسَمِينْ. يتبع |
||||||||||||
|
10-31-2020 | #5 | ||||||||||||
|
وليل كموج البحر أرخى سدوله … عليّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لمّا تمطى بصلبه … وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح منك بأمثل
|
||||||||||||
|
11-02-2020 | #8 | |||||||||||
|
مدائن من الشكر وجنائن الجوري
لهذا الطرح الاكثر من رائع /* دامت اطلالتك وتميزكـ في المواضيع احترامي .. وتقديري |
|||||||||||
|
مواقع النشر |
حين يبكي الياسمين .....قصة دمشقية
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
أطباء يكتشفون في الياسمين مادة مهدئة ووضع باقة من زهرة الياسمين في غرفة النوم لا يضر | زهراء دياب | الثقافه العامه | 12 | 10-24-2020 03:53 PM |
الفنان "محمد رمضان" يبكي بحرقة.. ثم يستفز الجمهور يشرب ماء بقشر الذهب | زهراء دياب | الاخبار الفنية والثقافية العربية والعالمية | 12 | 10-07-2020 08:27 PM |
عندما يبكي الياسمين | ابوصفاءالدليمي | الثقافه العامه | 3 | 09-27-2020 12:52 PM |
عندما يبكي الياسمين | ابراهيم دياب | الثقافه العامه | 16 | 09-09-2020 03:22 PM |