{قُلْ} أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب، بعد أن مهد بين يدي ذلك دلائل صحة هذا الدين، ولذلك افتتح بفعل الأمر {قل} اهتماما بالمقول، وافتتح المقول بنداء {يا أهل الكتاب} تسجيلا عليهم.
وقد جاء النداء تارة: {يا أهل الكتاب} دون {قل}، وجاء هنا {قل}. فبدون {قل} هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد.
ولما قصد الغض منهم ذكر {قل} تنبيهاً على أنهم غير مستأهلين أنْ يخاطبهم بنفسه، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} أمره أن يناديهم بـ {أهل الكتاب} للمبالغة في التوبيخ والاستنكار وتقبيح حالهم؛ لأن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان، وأن يذعنوا للحق، فلا يناسب مَنْ ينتسب إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته، بل ينبغي طواعيته وإيمانه به، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة. فإنه لَا يستوي من يعلم ومن يجهل؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون، فهو دليل على فساد قلوبهم.
وأطلق {أهل الكتاب} على المدح تارة، وعلى الذّم أخرى. فأهل القرآن والسنة لا ينطبق إلا على المدح، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79] وقد يراد به ما أنزل الله. وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم، كما لو قيل: يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه.
{لِمَ} استفهام استنكاري {تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق. وهي إما القرآن، وإما دلائل صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فالآيات هنا هي الآيات القرآنية التي من جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة والإنجيلِ من شواهد نبوَّتِه عليه السلام، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها، ومنازعة أهل الحق في معانيها.
أو آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لَا يكتفون بإنكار الحق، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه، وثبت به، وهم بذلك يغلقون قلوبهم، فلا يصل إليها نور الحق، وإذا كانوا ينكرون كل دليل يصلهم بالهداية، فقد سارعوا إلى الكفر.
{وَاللَّهُ} إظهارُ اسم الجلالةِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وتهويلِ الخطبِ.
{شَهِيدٌ} صيغةُ مبالغةِ للتشديد في الوعيد. كما أن أعمالهم كثيرة، وإذا كثر المشهود عليه كثرت الشهادة.
{عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} جملة حالية فيها تهديد ووعيد.. أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح. وإذا كان شهيداً على ما يعملون فسوف يجازيهم عليه في الدنيا وفي الآخرة بما يستحقون.
** وفيه: أنه سبحانه لا يحاسب العبد على ما حدث به نفسه، كما روى البخاري عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ) قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
فحديث النفس -أي الوساوس التي تكون في الصدر- لا يؤاخذ عليها الإنسان إلا إذا عمل، وركن إليها، واعتقدها، وجعلها من أعمال القلب. فحينئذ يحاسب عليها، وكذلك إذا نطق بها لسانه، أو عمل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذ يحاسب عليها .
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال، فإن ذلك العنوانَ {أَهْلَ الْكِتَابِ} كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي أيضا ترغيبَ الناسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ والوقاحة.
والتكريرُ للمبالغة في حمله -عليه السلام- على تقريعهم وتوبيخِهم، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم بالقصد.
{لِمَ تَصُدُّونَ} قطْعَ قولِه تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ} للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ.
{عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وسمي الدين سبيلاً لله لأنه موصل إليه {مَنْ آمَنَ} فهم لَا يكتفون بكفرهم، بل يبغون في غيرهم إبعاده عن الحق، فيصدون عن سبيله، فجمعوا بين الضلال والإضلال.
والمعنى: لِمَ تصرِفون الناس عن سبيل الله تعالى وهو سبيل النور وسبيل الحق، فالصد هو الصرف والمنع، والحيلولة بين الشخص والوصول إلى الأمر.