{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا} نكرة في سياق النفي لإفادة العموم فلَا يخص نوعا دون نوع، وانتفاء جنس الظلم عن أن تتعلق به إرادة الله، فكل ما يعد ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.
وأصل الظلم: «النقص»، ومن ذلك قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا} [الكهف:33]، ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، وقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:110]، ثم أطلق الظلم على وضع الأمر في غير موضعه، حتى لقد قالوا فيمن حفر الأرض، ولم تكن موضعا للحفر إنه ظَلمها، ويقال عن التراب المظلوم، وعن الأرض المظلومة، وقال الراغب في معنى الظلم: "الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته ومكانه".
{لِلْعَالَمِينَ} هم العقلاء في هذا الكون، لأنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه، ويشعرون بمتاعبه وآثامه.
يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل.
أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه فلا يعذب إلا بعد الإِعلام والإِنذار.
فنفي عن نفسه سبحانه وتعالى أن يريد ظلماً للعالمين، فهؤلاء الذين اسودت وجوههم لم يُظلموا.. الذين ابيضت وجوههم نالوا هذا بعملهم أي بسببه، والذين اسودت وجوههم نالوه أيضاً بعملهم، فالأولون عملوا صالحاً فأثيبوا هذا الثواب، والآخرون عملوا سيئاً فأثيبوا هذا العقاب؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يظلمهم.
قال أبو السعود: تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ بآحاد الجمعِ المعروفِ، والالتفات إلى الاسم الجليلِ إشعارٌ بعلة الحكمِ وبيانٌ لكمال نزاهتِه عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليه أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلاً عن أن يظلِمَهم، فإن المضارعَ كما يفيد الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقامِ كما أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعرفة المقامِ على دوام الثبوتِ، وعند دخولِ حرفِ النفي تدل على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ، وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ هم الظالمون ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]
{وَلِلَّهِ} الخبر هنا مقدم لفائدة وهي الحصر، يعني التخصيص؛ لأنك إذا قدمت ما حقه التأخير كان بذلك حصر، سواءً كان خبراً أو مفعولاً به أو جاراً ومجروراً. فمثلاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] قدم المفعول به لإفادة الحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا إياك، وهنا {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: لا لغيره. فقدم الخبر لأجل الحصر.
{مَا} اسم موصول يشمل كل ما في السموات والأرض يشمل كل هذا، ما فيها من الملائكة، وما في الأرض من البشر والجن والأشجار والأحجار وكل شيء.
وأتى بـ «ما» تغليباً لغير العاقل؛ لأنهم الأكثر فغلبوا هذا من وجه، ومن وجه آخر أنه إذا أريدت الصفة فإنه يعبر بـ «ما» بدل «من» ولو في العاقل، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ولم يقل: "من طاب" لأنه لم يقصد عين الشخص العاقل بل قصد الوصف والجنس والكم.. انكح ما طاب من جميل وقبيح وواحد ومتعدد من النساء